

وهذا السؤال يُصبح طرحه ضرورة في مقاربة الروائيين الذين عُرفوا بغزارة مؤلفاتهم الابداعية، كما هو الحال مع الروائي النمساوي ستيفان زفايغ، الذي نجد إلى جانب وفرة في منجزه الروائي اشتغالاته في مجال فنّ السيرة بنوعيه الذاتي والغيري، إذ يذكرُ في «عالم الأمس» روافده الفكرية والأدبية لافتاً إلى معاصرته لشخصيات مؤثرة على مستوى الفكر والأدب والفن. هذا إضافة إلى معايشته لواقع عصره المتشبّع بالتوتر والقسوة. وهذا ما أرخى بظلاله على اختياراته في الكتابة، حيث يعالجُ صاحب «السرّ الحارق» ما تخلّفهُ الحرب من كوارث وندوب غائرة، ويهمّه كشف وطأة أجواء الحرب الموبوءة على مصير الفرد. ومن المعلوم أنَّ الحرب تكرّسُ ظاهرة الحشود، وبالتالي يغيبُ الفرد. والمقيت في هذا المناخ هو اختزال الفرد إلى شيء عديم الأهمية تماماً على حد قول الشاعر الانكليزي «ديفيد جاسكوين».
صراع الفرد
تناولَ زفايغ في روايته القصيرة «لاعب الشطرنج»، وقصته «مانديل بائع الكتب القديمة»، صراع الفرد للحفاظ على قواه العقلية وذاكرته الشخصية بينما تشتغلُ آلة القمع على قهر إرادته، وتدجين تكوينه النفسي. ويعود في روايته الأخيرة «التحوّل» إلى تَتبّع بؤس الحرب. وما يقوله فردينان، وهو أحد شخصيات الرواية، يعبّرُ عن وعي عميق بخسارات لا تعوَّض في الحرب، فبرأيه الإنسان ليس سحالي تنبتُ أذيالها بسرعة بعد أن يتم اقتلاعها، وحين تبتر أجمل سنوات من حياة الرجل فإنه يظل معاقاً إلى الأبد.
وظيفة المكان
يختار ستيفان زفايغ مكاناً مُغلقاً باعتباره وعاءً لانطلاقة الحدث الأساسي، الأمر الذي تراه بوضوح في رواية «لاعب الشطرنج» و»أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة»، إذ يكون ظهر السفينة مكاناً للقاء الخصمين في العنوان، بينما يتحول الفندق في العنوان الثاني إلى منصّة للنقاش بين عدة شخصيات، قبل أن تبدأ المرأةُ التي يسمّيها الراوي بـ»س» بسرد مغامراتها مع شاب مُقامر. كذلك، فإنَّ ما يصنف ضمن أمكنة مُغلقة يؤطرُ الحدث المحرّك في رواية «السرّ الحارق»، ومن المعلوم بأنَّ التفاعل قائم بين البنية المكانية والشخصيات الروائية، وبذلك يتّخذُ المكان دلالاتٍ موحية بالسلوكيات ونمط المعيشة والبعد الفكري، وقد يفسّرُ التغيير في المكان بأنه مؤشر للتحوّل في مسار الشخصيات مثلما يبدو ذلك بالوضوح في شخصية كريستين التي تحضر في مفاصل رواية «التحول» بمستويات مختلفة، كما أنَّ العنوان أوحى بما تشهدهُ حياة هذه الشخصية من تقلّبات، إذ يتابعُ المتلقّي تجربتها على المستويين الداخلي والخارجي من منظور الراوي العليم الذي يستبطنُ سرائر هذه الشخصية.
يُذكر أنّ السردَ يتّخذ منحى متصاعداً باستثناء ما تكسره الاسترجاعات التي تكملُ حلقات في هوية كريستين الاجتماعية من جهة وتسد ثغرات في تركيبة شخصية فردينان من جهة أخرى. تبدأ الرواية بتقديم صورة بانورامية عن مكاتب البريد في فيينا، ويحاول الراوي أن يُضيّق المسافة بين البيئة والمتلقي باستخدامه لضمير المخاطب، ومن ثمَّ يمتزجُ السرد بالوصف في الإبانة عن خصائص المكان. وتَردُ في هذا السياق معلومات تاريخية عن الحاضنة المكانية مع الاهتمام بوصف التصميم والأعراف الادارية في هذا الفضاء. هنا يضعك المؤلف أمام التشدّد البيروقراطي، ملمّحاً إلى أنّ الزمن يتوقف في هذا المكتب ويكون القانون الأزلي للانحطاط والنمو مُعلّقاً داخل مبنى دائرة البريد. والغاية من هذا التفصيل هو الإيحاء بصعوبة عملية التحوّل. وما يلبث السرد أن ينصرفَ نحو الشخصية التي تشكّلُ قصتها قوام الرواية. ويفهمُ من طريقة انتقال عدسة الراوي نحو كريستين حيثُ يصفُ شكلها وما تعانيه الأخيرة من حياة محدودة الخيارات كأنها قد تَشيأَت في بيئتها رغماً عن الحيوية التي تومِض على محيّاها أحياناً.
إذاً فإنّ مجال الحركة مرسوم لكريستين بين بيتها ومكتب بريد قرية كلاين رايفلينغ. ومع مضي السرد، يتمُّ التعرف إلى جوانب أخرى في شخصية كريستين وهي تعيشُ مع والدتها. يُذكر أنَّ الراوي لا يفصل في سرد حياة البطلة قبل أن تبلغ السادسة والعشرين من عمرها، إنما يكتفي بالاشارة إليها لافتاً إلى بعض الأحداث التي زادتها انكفاءً على حياتها المحدودة.
وجه آخر
تبدأُ بوادر التحوّل في شخصية مساعدة البريد مع تلقّي برقية يُبدي صاحبها ترحيبه باستقبال كريستين متى تصل إلى مكان إقامته، والموقّع على البرقية هو زوج خالتها التي هاجرت إلى أميركا بعد ما ضاقت ذرعاً في بلدها. وتتزوّج في موطنها الجديد بأنطوني فون بولن تاجر القطن. هنا تأخذُ قصة حياة كلارا التي تُعرفُ بكلير فون بولن موقعها ضمن الحزمات السردية. كانت تعمل عارضة أزياء في فيينا قبل رحيلها الاضطراري إلى نيويورك، إذ وقع رجل الأعمال الثري في غرامها ما أجّجَ غيرة زوجته وأطلقت النار على عشيقين. وبعدما تكتبُ حياة جديدة لكلارا، تغادر فيينا قبل أن تتفاقم الفضيحة. وتنقطعُ عن أهلها إلى أن تزور سويسرا مع زوجها الهولندي، حيث تتواصل مع أختها ماري. هنا تحدثُ ثغرة في دورة الأيام الرتيبة، وتلوح فرصة الخروج من التقييد الوظيفي ولو مؤقتاً. إذ تلبّي كريستين دعوة خالتها وتحلُ ضيفاً عليها في انجادين بدلاً من أمها العجوز، فتتلبّس شكلاً جديداً وتنفتحُ على أجواء النزل.
ويعودُ الدفء إلى مشاعرها المتيبسة، وتنتسب إلى عائلة فولن بحيثُ ينسى اسمها الأصلي ولا تراسل أمها المريضة ولا تقرأ ما يكتبهُ لها فوكستالر معلّم القرية عن حالة والدتها. تنغمسُ كريستين في هذا الوسط الارستقراطي، وتَنشأ بينها وبين المهندس الألماني علاقات غرامية، ويتودّدُ إليها الجنرال الانكليزي. لكنّ هذه الوضعية تبدو موقّتة بالنسبة لكريستين، إذ ترصّدت بها فتاة مانهايم التي لاحظت بأنَّها لم تعدْ تثير اهتمام المهندس الألماني وحلّت الضيفة الجديدة مكانها. ولا يمرّ كثير من الوقت حتى تكتشفُ الفتاة الأميركية بأنَّ منافستها لا تعرف شيئاً عن سلوكيات وقيَم المجتمع الأرستقراطي. أكثر من ذلك تلمُّ بوضعها الاجتماعي البائس في القرية، وعندما ترفعُ النقاب عن صورة كريستين الحقيقية يقاطعُ كلّ من في النزل أسرة فولن، ومن جانبها تزدادُ مخاوف الخالة بأن تخسر اعتبارها الاجتماعي ويتطوّع شخص بالنَبش في ماضيها مثلما بحثت فتاة مانهايم عن جذور ابنة أختها. ويتّضِح انّ ما عاشَته كريستين في كنف خالتها لم يكن إلّا فجراً كاذباً، لكن لا يمرّ من دون أثر.
قرار
يتعاظم الشعور بالوحشة لدى مساعدة البريد بعدما تعود إلى القرية، ومما يعمّقُ وحدتها هو غياب الأم، إذ تصبحُ شخصية انفعالية ويحتدُ نفورها من أهالي القرية. ولا يخففُ من قتامة الأجواء سوى رحلاتها إلى فيينا كل يوم أحد، وهذا ما يوفر لها إمكانية التواصل مع شخصية فردينان الذي تذوّق مرارة الحرب، وتتقاطَع آراؤه مع ما تفكّر فيه كريستين، التي تدرك عبث حياتها المشروطة بالمستوى الاجتماعي وشحّة تجاربها الذاتية. والأهمُ في هذا العمل الروائي هو الأسئلة الوجودية التي يمرّرها المؤلف على لسان فردينان، الذي يضع كريستين أمام خيارين: إمّا الانتحار او نهب الأموال من مكتب البريد. فالخيار الأول لا يتطلبُ كثيراً من التفكير، فيما القرار الثاني دونه توقّع الاحتمالات. لذلك تمضي أيام قبل أن يتّفق الإثنان على نهب خزينة مكتب البريد، وبالتالي ترفع الأصبع مؤقتاً من على زناد المسدس.
ما يجدرُ ذكره أنَّ العمل على البعد النفسي هو ملمح أساسي في روايات ستيفان زفايغ، كما أنّ القارئ يَتفاجأ بارتياد الكاتب لمساحات غير مطروقة وتوظيف خلفيته المعرفية في نصوصه الروائية. لعلَّ ما يستحضر في الذهن وأنت تتابعُ جزئيّات رواية «التحول» هو سيناريو الانتحار الذي يختاره الكاتب في منفاه البرازيلي، وما يقوله فردينان أنّ تفوّق الانسان يكمنُ في قدرته على أن يموت عندما يريد وليس فقط عندما يتحتّمُ عليه ذلك.








