الإنتماء إلى البلد الأم من أهم الخصائص التي يمكن أن يشعر بها الإنسان تجاه وطنه. فما من شعور أجمل من الانتماء لبلد يعتبره المواطن ملكاً له، ويَتشاركه مع المواطنين الآخرين، مهما كثرت الاختلافات في ما بينهم. فالوطن يجب أن يكون الملتقى المشترك بين جميع المواطنين. ولكن لا يظهر الانتماء بالصدفة، ولا يمكن أن يشعر به المواطن إلا من خلال الأفعال، وليس الأقوال... لكي يشعر الإنسان بأنه ينتمي الى وطن، يجب أن يحترم قوانينه، كما يجب على الوطن أن يؤمّن لجميع المواطنين حاجياتهم. فما هي المواطنية؟ وما هو الشعور بالإنتماء من منظار علم النفس؟ وكيف يمكن لمواطن فَقَدَ شعور الإنتماء أن يستعيده؟ وما هو دور الوطن في كل ذلك؟
لم أفهم يوماً السياسة اللبنانية، فرغم حصولي على 3 شهادات دكتوراه، لم أستوعب يوماً السياسة. هل هي حقاً صعبة الفهم؟ سؤال يجول في بالي طوال الوقت. في هذا المقال، لن أتكلم عن السياسة، بما أنني لا أفهمها وليست من اختصاصي، وطبعاً لن أتكلم عن التربية المدنية ولن أعطي درساً عن المواطنية، لكنني سأحاول تفسير المشكلة الكبيرة التي يعانيها الكثير من اللبنانيين وهي عدم الانتماء، معتمداً علم النفس وتفسيراته. وطبعاً سأحاول اقتراح حلول لهذه المشكلة القديمة-الجديدة.
المواطنية والإنتماء للوطن
بشكل عام، المواطنية جزء لا يتجزّأ من مفهوم «الإنتماء إلى وطن»، ويعني ذلك أنه لا يمكن التكلم عن المواطنية من دون التكلم عن الإنتماء إلى وطن. ولكن هذا المصطلح تغيّر مع الوقت، وأصبح عند العديد من علماء اللغة وعلماء علم الإجتماع غير واقعي، حيث يعتبرون أنّ الكرة الأرضية أصبحت موطن الجميع.
ولكن هل هذا واقعي، مع كل المشاكل السياسية التي تجتاح العالم من شماله إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه بسبب صراعات الثقافات؟ كل ذلك يتطلب دراسات موسّعة، للوصول إلى جواب مقنع للجميع. أما بالنسبة لعلم النفس، فيفسّر مفهوم المواطنية بأنه الشعور بالإنتماء إلى بلد ويتخلله الراحة النفسية بسبب هذا الإنتماء. هذا البلد يلبّي حاجيات المواطن ويقدّم له الخدمات لكي يشعر بالراحة النفسية وليس فقط الجسدية. ويمكن مقارنة المواطنية أو الإنتماء إلى العائلة المؤلفة من أب وأم وأولاد، الذين يشعرون بالإنتماء إلى عائلتهم من خلال المعاملة الجيدة والعادلة. ويطبّق هؤلاء الأولاد كل «العادات» التي يتعلّمونها من الوالدين كالمواطن الذي يحترم قوانين البلد الذي ينتمي إليه ويتقيّد بالقوانين فيه.
لذا، إنّ تعلُّم القوانين يبدأ من المنزل، حيث يفهم الطفل كيفية احترامها وتطبيقها أيضاً. في التربية العائلية، يجب أن يضع الأب والأم قواعد أساسية يجب احترامها في داخل المنزل. هذه القواعد (أو القوانين) تساعد العائلة في:
- تنظيم الحياة ضمن العائلة، لذا القواعد التي يصرّ عليها الوالدان هي أساسية لتنمية روح التعاون والإنتماء.
- تكوين الأنا الأعلى عند الأطفال من خلال احترام وتطبيق القوانين والقواعد المفروضة من الأهل.
- مشاهدة ومراقبة تصرفات الأهل وتقليدها. لذا، دور الأهل هو أساسي لكي يتعلم كل فرد من العائلة التصرّف الحسن.
عدم الإنتماء ودور الدولة
لكي يصل المواطن إلى الشعور بعدم الإنتماء، تلعب الكثير من العوامل دوراً في وصوله إلى هذه المرحلة. ولكي لا «نبكي على الأطلال»، هناك بعض النقاط التي يمكن تطبيقها لاستعادة المواطن ثقته بدولته، وليشعر بالتالي بالإنتماء الى وطنه من جديد. وهذه النقاط ليست بالمستحيلة، وهي:
- مشاركة جميع أطياف المجتمع في اتخاذ القرارات الحاسمة لمصيرهم من مواضيع أساسية وحياتية للمواطن في المجتمع الذي ينتمي إليه. فيمكن إقامة استطلاعات رأي على الإنترنت أو من خلال الجرائد وغيرها من الوسائل لمساعدة المواطن في إيصال صوته للمسؤولين في الدولة.
- إنخراط جميع الفئات من المجتمع في القرارات الحاسمة. ذلك يساعد كثيراً في الشعور بالإنتماء إلى وطن، ويخفف الشعور بالإنسلاخ عنه.
- المشاركة في الكثير من المواضيع الإجتماعية-السياسية والتي تؤثر على حياة المواطن وطلب المساعدة منه لاتخاذ القرارات المهمة (منها القرارات حول المسائل الطبية والبيئية والإجتماعية...).
- الوعي عند الانتماء لحزب أو لطرف سياسي، وأن تَتشارك تلك الأحزاب النقاط المشتركة في ما بينها، والإبتعاد عن التحريض بكل أشكاله. فالمواطنية لا تقوم إلّا من خلال أسس التساوي في الحقوق والواجبات.
- فصل المصلحة الشخصية والفئوية والشعبوية والدينية والسياسية... عن المصلحة العامة.
- توطيد العلاقة ما بين مختلف شرائح الدولة، أي الشعور بأنّ المسؤول السياسي يشعر بما يمرّ به المواطن. كما احترام المواطن كي لا يشعر بالدونية التي تؤثر تأثيراً كبيراً على شعور المواطن بانتمائه لوطنه.
- إحترام مبدأ الاختلاف بالرأي، وإيجاد طريقة للوصول إلى بر الامان من خلال النقاط المشتركة.
كملخّص، لا يطلب المواطن إلا حياة كريمة واحترام الدولة له. هذا الإحترام يتبلور من خلال تلبية حاجياته الأساسية والحياتية. كما للمواطن دور أساسي في بناء وطن عادل من خلال تطبيق القوانين والأعراف. فلا يمكن بناء جسر تحاور ما بين المواطن ووطنه إلا من خلال العدالة الإجتماعية التي يجب أن يلمسها المواطن، وألّا تبقى حبراً على ورق، أو أقوالاً من دون أفعال. وهذا ما يجعل المواطن ينتمي إلى وطنه، ويقوم بالمستحيل لحمايته.