المقاومة المستحيلة!
المقاومة المستحيلة!
جوزف طوق
Saturday, 11-Jul-2020 06:17

كم كانت طويلة السنوات التي قاومنا فيها الجوع والإهمال بالزراعة، وكم كانت عديدة صناديق التفاح التي بقيت مرمية تحت الأشجار، وكم كانت كثيرة حبّات البطاطا التي دهستها الشاحنات على الطرقات... كم كانت طويلة تلك السنوات، وكم انتفض المزارعون المقاومون وتلفوا محاصيلهم من بندورة وخيار ومشمش وكرز وذرة، رفضاً لسياسات الدولة، التي أهملت تماماً تعبهم وسهرهم واهتمامهم بالأرض ومنتوجاتها... كم كانت طويلة سنوات الزراعة، وأطول منها سنوات الحصاد، وكم كانت قصيرة قصص التصدير وردّ جميل أولئك الصامدين في بساتين قراهم وسهول مدنهم وحقول بلداتهم.

 

كم كان زفت السياسيين قاسياً على خيرات المزارعين، وكم كانت وعود الفاسدين ظالمة بحقّ المقاومين بالمعول والرفش والخراطيم.

 

مزارعو بلادي فلحوا وزرعوا واعتنوا وقطفوا ووضّبوا، وانتظروا التجّار الذين لم يأتوا، وإن أتوا، جلبوا معهم احتكاراتهم، واشتروا محاصيلهم بأقلّ من كلفتها. لا حول لهم ولا قوّة، استداروا نحو الدولة ووزارات زراعاتها المتتالية، ولم يجدوا مرّة واحدة وزيراً يحمل خطّة لإنقاذ منتوجاتهم وضمان شرائها بأسعار تكرّم شقاءهم، ولم يجدوا حتى مجالس وزراء ونوّاباً وزعماء يعيرون أي انتباه إلى واحد من أهم القطاعات في لبنان.

 

يستطيع اللبناني أن يقاوم العدو والمحتلّ، ويستطيع أن يقاوم التدخّلات الخارجية والتجاوزات الداخلية... يستطيع اللبناني أن يقاوم الفقر والبطالة، والجَهل والطائفية، ويستطيع أن يقاوم البرد والحرّ، لكن من المستحيل أن يقاوم الجوع.

 

قالوا أن نقاوم الجوع بالزراعة، ولكن بأي مياه نرويها؟ هل نرويها بمياه الليطاني الملوّثة، أو بمياه بحيرة القرعون الآسنة؟ هل نرويها بمياه عشرات أنهر لبنان الممزوجة بقنوات الصرف الصحّي والمخلّفات السامة من المعامل المخالفة؟ أم نرويها من مياه السدود التي لا نجد فيها ما يكفي لشربة ماء؟ أم نرويها بمياه الآبار الارتوازية التي يحفرها المحظيون ويبيعونها للمحرومين؟

 

قالوا أن نقاوم الجوع بالزراعة، ولكن أين نزرع؟ في أراضي الوقف المسيحية والإسلامية المحرّمة علينا؟ أم نزرعها في الأراضي الشاسعة المُحتكرة من أزلام السلطة وزعمائهم؟ هل تريدوننا أن نزرع في الكسّارات والمرامل التي لم تترك جبلاً أو سهلاً إلّا والتهمته؟ أم تريدوننا أن نزرع في الأراضي المخصّصة لزراعة غابات الباطون التي ترتفع أبنيتها دون حسيب أو رقيب؟ أم نزرع حتى نرمي محاصيلنا على الطرقات في كرنفالات التعتير والإهمال وإرضاء المستوردين؟

 

14 و8، ويمين ويسار، وأحزاب وتيارات وحركات، وتكتّلات وتحالفات، وعلاقات مميّزة عابرة للقارات، وسنوات من الوعود، وما من مسؤول طبّق خطّة لتصدير خسّة أو ضمّة بقدونس. كل هؤلاء اشتغلوا بالسياسة وأهملوا الشقّ الاجتماعي إلى أقصى الحدود، فلم يعيروا يوماً اهتماماً للإنسان الذي هو أساس الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات، لم يهتمّوا يوماً بالإنسان الذي ترتكز عليه كلّ أشكال المقاومة.

 

ملأوا أرض لبنان بالخطابات والتهديدات، وشتلوا الساحات بالمنابر والأعلام، فزرعوا الطائفية في كلّ حقل، وصنّعوا التبعية في كل المواسم، وأنتجوا الإهمال في كلّ الصناديق، وتاجروا بدماء اللبنانيين في كلّ الأسواق، واشتروا وباعوا هويتنا كيفما أرادوا... فبقيت بنادقهم وتعب حاملوها، وبقيت منابرهم ونام سامعوها، وبقيت تحالفاتهم وملّ مطبّلوها، وبقيت كذباتهم وجاع من صدّقوها.

 

عندما بدأ فيدل كاسترو وتشي غيفارا حربهما على الامبريالية ومعاداة الغرب، أسّسا في منتصف الخمسينات بنكاً لتنمية الزراعة والصناعة، فقدّما التمويل للمحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية والبنية التحتية اللازمة للزراعة، وعمليات شراء الأراضي. أمّا نحن، سنقاوم بالزراعة وأموالنا محجوزة في المصارف، وسنقاوم بالزراعة ولا نملك ثمن شتلة أو كيلو بذور.

 

وفي منتصف الخمسينات أيضاً، تمكّن الرئيس كميل شمعون من بيع موسم التفاح اللبناني بكامله إلى الأميركيين، ليس بالتهديد والوعيد، بل بحنكة رئيس جمهورية يخاف على مزارعيه ويهتمّ بالشعب وليس بالعائلة.

 

وأيضاً وأيضاً، في منتصف الخمسينات، كان لبنان من أكثر بلدان الشرق الاوسط تصنيعاً، وكان قطاع الزراعة وحده يسهم بحوالى 30 في المئة من الدخل القومي... امّا اليوم، فلا يتعدّى الـ7 في المئة وما يرافقها من إهمال غير موصوف.

 

أن تقاوم هو أن تعرف عدوّك، وعدوّنا ليس الجوع، بل من أوصلنا إلى الجوع ... مقاومتنا اليوم ليست بالزراعة، بل بالحصاد، حصاد الرؤوس التي أتلفت محاصيل لبنان الزراعية والبشرية والمالية، والرؤوس التي هلكت نعمة لبنان واللبنانيين بالتنظير والكذب واستغباء الناس.

عندما تقاوم بالبندقية تخسر، أمّا عندما تقاوم بالإنسان بالتأكيد ستنتصر.

theme::common.loader_icon