قرارا «المركزي» توأمة لإطلاق الجهد اللازم لتوحيد سعر الدولار
قرارا «المركزي» توأمة لإطلاق الجهد اللازم لتوحيد سعر الدولار
الدكتور جو سروع
جريدة الجمهورية
Wednesday, 08-Apr-2020 07:17
بدأت قضية المودعين الصغار في المصارف، مع انطلاق انتفاضة الجياع في تشرين الأول الماضي، وتفاقمت مع التدابير الاستثنائية التي اتّخذتها جمعية مصارف لبنان بموافقة مصرف لبنان المركزي، والتي عمّقت الهوة بين المصارف وزبائنها، كل الزبائن الذين جمعهم الهمّ والقلق، ووقفوا في صفوف طويلة عرفوا متى وكيف ينتظمون فيها، ولكن لم يكونوا على يقين كاف لِما هم مقبلون عليه في ذلك اليوم وفي قابل الأيام. ومن ثم كان الهجوم العفوي والمنظّم على المصارف والمصرف المركزي، والذي أدى بالمحصّلة إلى اقتصار عمل المصارف على تقنين سحوبات الزبائن وتحويلاتهم إلى أبنائهم، الذي يتابعون دراستهم في الخارج... والتوتر العالي النبرة والفعل الذي واكبَ هذه التدابير.

لاشت الثقة في المصارف والمصرف المركزي وانهارت مثلها في هذا القبيل مثل انهيار «بيت من ورق اللعب». فمشاكل لبنان «ولّادة» تبدأ صغيرة وتكبر خلافاً لمشاكل العالم، التي تبدأ كبيرة وتصغر. لا حلول ناجعة ومجدية لمشاكلنا، إذ إننا نتعامل مع أعراضها ونتجاهل أسبابها. ولا يعود السبب في ذلك إلى تركيبة لبنان، بل إلى الذين تناوَبوا على إدارة البلد السياسية والاقتصادية والمالية، ومقاومة محاولات مَأسسته المحدودة، وتغليب المصالح الضيّقة على حساب المصلحة العامة، وغياب الرؤية لا بل انحسارها وضيق مجالها، وتبنّي صراعات الآخرين وتجاذباتهم على أرضه، والتي ساهمت في تفريغ البلد من قدراته البشرية والتنافسية والمالية والبيئية. فبعدما كان «قبلة للأنظار» أصبح قبلة للفشل الإداري الذريع وللفساد المستشري والمتمادي والتشويه البيئي والتيئيس الاجتماعي والبشري...

 

من هذا المنطلق تدرّج الاهتمام بقضية المودعين الصغار مع تفاقم مشاكل لبنان واستفحالها وترسيخها على كل الصعد، وتزايد الضغط على المصرف المركزي تحديداً وعلى المصارف عموماً، للحفاظ على القيمة الشرائية لودائع صغار المودعين.

 

في هذا الإطار، أصدر مصرف لبنان المركزي قراره الرقم 13215 تاريخ 3 نيسان 2020، الذي يشمل شريحة من المودعين ويبلغ عدد حساباتها نحو مليون وسبعمئة ألف وقيمة أرصدتها حوالى 550 مليون دولار. ويهدف هذا القرار عملياً إلى حماية المودعين الذين يملكون حسابات لا تتجاوز الخمسة ملايين ليرة، مُتيحاً لهم تحويل هذه الأرصدة إلى الدولار الأميركي خلال مدة صلاحية القرار بالسعر الرسمي وبيعها بسعر السوق. كما يتيح الفرصة لمالكي الحسابات التي لا تتجاوز الثلاثة آلاف دولار لتحويلها إلى الليرة بسعر السوق. ويتحمّل مصرف لبنان كلفة هذه العمليات، والمتمثّلة بالفارق بين سعر الدولار الرسمي وسعر السوق. ويبقي التعميم سائر العمليات بالدولار الأميركي التي تقوم بها المصارف، خاضعة للسعر الذي يحدده المصرف المركزي في تعامله مع المصارف.

 

وبصرف النظر عن هدف القرار النبيل ومدلوله الاجتماعي وكلفته، التي يعتمد تحديدها على ما سيكون عليه سعر السوق لدى إتمام عمليات التحويل إلى الليرة اللبنانية، يبقى من حيث المبدأ انتقائياً وخلفيته سياسية.

 

أما الجديد الاستراتيجي في ما ورد في القرار، فهو إضافة إلى القاموس النقدي للمصرف المركزي اللبناني: سعر السوق لصرف العملات الأجنبية، ما استلزَم استكمالاً إصدار القرار 13216 بصلاحية مدتها ستة أشهر من تاريخ صدوره في الجريدة الرسمية، وكذلك «بغية تأمين العملات النقدية الأجنبية لحاجات الاقتصاد الوطني». وتضمّن القرار أيضاً عنصرين جديدين، الأول «إنشاء وحدة خاصة في مديرية العمليات النقدية في مصرف لبنان، تتولى التداول بالعملات الأجنبية النقدية، لا سيما الدولار الأميركي، وفقاً لسعر السوق». والثاني يتّضِح في مادته الثالثة التي تنصّ على «إنشاء منصة إلكترونية تشمل كلّاً من مصرف لبنان والمصارف ومؤسسات الصيرفة التي رغبت إشراكها في الوحدة الخاصة التي ورد ذكرها في الجزء الأول من القرار وتمّت الموافقة عليها، ليتم من خلالها إعلان أسعار التداول بالعملات الأجنبية وخصوصاً الدولار».

 

يتّضِح من هذا القرار، أنّ سياسة التثبيت النقدي التي تمّت إدارتها تاريخياً من قبل المصرف المركزي باستقلالية تامة، كما هي الحال في بقية المصارف المركزية في الاقتصادات المنفتحة، بغضّ النظر عن الجدل العالي اللهجة الذي طالها أخيراً والمتعلّق بكلفتها وجدواها، مع العلم أنّ ما بقي من هذه السياسة هو ما ورد سابقاً في القرار 13216 بإبقاء العمليات التي تتم بين المصارف وعملائها وكذلك الدولار الجمركي.

 

مشاركة المصارف وتحديداً بعض مؤسسات الصيرفة على أقلّه خلال مدة صلاحية القرار، هو أمر جيد، لا سيما أنّ مؤسسات الصيرفة قد تشكل ضلعاً أساسياً في مثلث المنصة الإلكترونية في توفير الدولار النقدي.

 

ويبقى في رأيي، أنّ توحيد سعر صرف الدولار ضمن هوامش مقبولة من الممكن ضبطها، هو الهدف الأساسي وراء توأمة القرارين، وهذا هدف استراتيجي ومفصلي ومطلب وطني على كل الصعد، والمكوّن الاستراتيجي لنجاح أي خطة إنقاذ، مهما تميّزت مكوناتها ومجريات وآليات تحقيقها.

 

لكن هذا الهدف والمطلب «لا يُنالان بالتمنّي»، إذ يلزمهما بداية استراتيجية وخطة عمل وإدارة مفصّلة، تعمل وفق آليّات وسبل استباقية لإدارة سوق القطع العملية بكافة مكوناتها النوعية والكمية وحتى القانونية، وبكل ما يتعلق بضبط سوق الصرافة إن كان في ما يتعلق بمؤسسات الصيرفة التي لا تشارك في المنصة أو غير الشرعية أو أية «سوق أخرى» قد تنشأ.

 

والأهم على الحكومة أن تدعم مهام ومهمة منصة التسعير، وأن تبقى على اطّلاع مُسبق وفقاً للقوانين المرعيّة الإجراء على مجريات عملها ونتائجها، وتحصينها من السياسة والسياسيين ممّن هم داخل الحكومة وخارجها، وإبقائها بمعزل عن مجالات الشك والتشكيك والكباش السياسي، والأهم أيضاً أن تبصر «خطة الحكومة الإنقاذية» المرتقبة النور في القريب العاجل، وأن تركّز في شقها التكتيكي الآني على اتخاذ كل ما يلزم من القرارات اللازمة وتوفير الشروط المهنية والموضوعية: استراتيجياً وتخطيطاً وتمويلاً وتنفيذاً لوقف الانزلاق الحر للحالة الحرجة التي يعانيها البلد، وبالتالي إعلان بداية الخروج منها، بما فيها حسم أمرها في ما يتعلق بصندوق النقد الدولي، وإرساء الحكم الجيّد بكل فاصلة من فواصله المجرّد والمنَزّه عن المحاصصة والضامن لتكافؤ الفرص، وإعادة تموضع لبنان السياسي والحقيقي في محيطه العربي ومع شركائه وأصدقائه الدوليين، وتسريع استثمار موارده الطبيعية من دون نقص أو انتقاص، وإعطاء معنى حقيقي لمحاربة الفساد والهدر الذي مُوّل من أموال المودعين، وأن تسترد حقوق البلد والناس المعنوية والمادية.

 

كما أنه من المهم جداً في هذه المرحلة، تحييد المصارف العاملة في لبنان عن السياسة والعزوف الجدي عن الامتناع عن كل عمل أو قول من شأنه أن يعمّق الأضرار الهيكلية التي أصابت نظامه الحر في صميمه، لمصلحة تدابير وقيود وتخلّف انتقائي في معاملة زبائنه، وخلق هوّة تتعمّق باستمرار بينها وبينهم، وتمكين القطاع المصرفي من بدء مسيرة استعادة الثقة فيه والتي كانت مفخرة له محلياً وعالمياً، علماً أنّ عملية استرداد هذه الثقة شاقة في ظل انتقاص مُتماد لحقوق المودعين التعاقدية المالية، ما يشكّل بالمبدأ hair cut لودائعهم قد حصل فعلاً، هذه الودائع التي تعاني من التدابير والإجراءات الحاصلة ويبدو أنها كذلك مُستهدفة بمسودات قوانين سُحبت أخيراً، تُشرّع التخلف الانتقائي. هذه الودائع التي يجب أن تُعتبر ثروة وطنية، وإذا كان هناك داع لتصنيفها، فهو لا يكون وفقاً لحجم أرصدتها بل يجب أن يكون على مبدأ ما هو بالقانون شرعي وما هو غير شرعي. وهذا الأمر ليس من مسؤولية المودعين بل من مسؤولية الدولة، كما أنّ من مسؤوليتها حماية أموال المودعين الشرعية وضمانها، وإعادتها إليهم من كل مَن استعملها وقوداً لفساده وهدره.

 

إنّ مسيرة إنقاذ البلد لن تستقيم من دون مصارف فاعلة، والمصارف يلزمها ودائع، وليس مجدياً الاعتقاد أنّ أي عملية إعادة هيكلة أو تأهيل أو إعادة تشكيل فوقية للمصارف، تحقّق أهدافها العملية بالسرعة اللازمة لنمو الاقتصاد. وفي المقابل انّ القطاع المصرفي يحتاج إلى عملية ولادة داخلية، لقطاع يَعي تماماً كيف يبني على خبراته التي اكتسبها قبل وبعد مرحلة انعدام الوزن الذي يعانيه حالياً، ومراجعة أسس تنظيمه من قبل السلطات النقدية والقانونية المعنية. ويهدف ما سبق في المحصّلة إلى فك التشابك المتمثّل بالدولة والمصرف المركزي والمصارف، والذي أنشأ وفاقَم المأزق المالي والنقدي الحالي والمصرفي، واستبداله بمثلث المصرف المركزي والمصارف والاقتصاد. وهذا أمر يلزمه الوقت والموارد البشرية المختصة.

 

ويجب أن يُوظّف الوقت الآن، للمحافظة الفعلية على البقية الباقية من الوزن للقطاع المصرفي، وتمكينه من القيام بدوره المهم والأساسي في تنفيذ قرار مصرف لبنان الرقم 13216، والذي يؤمَل منه بالنتيجة في تحقيق هدفه المتمثّل بتوحيد سعر صرف العملات الأجنبية لا سيما الدولار، الأمر الذي يمثّل بعداً مفصلياً ومصيرياً لكل عملية إنقاذ مرتقبة للبنان.

theme::common.loader_icon