كارل ماركس: مشروع النقد الفلسفي
كارل ماركس: مشروع النقد الفلسفي
كه يلان محمد
Wednesday, 08-Apr-2020 06:44
إنهيار الاتحاد السوفياتي والسقوط المدوّي للتجربة الاشتراكية كان مفاجأةً للعالم، بمَن فيهم الخصوم الذين ما داعَبهم الأمل بهذا التفكّك المُتسارع. حتى يكون النظام العالمي تحت إمرة القطب الأحادي ويتحوّل المعسكر المنافس إلى أنقاض للنظريات المُتلاشية، دارت رحى الحديث ولم تتوقف إلى الآن بشأنِ الدسائس والمؤامرات التي استهدفت ما كان يُمثّلُ مُنعطفاً نحو تاريخ جديد، حيثُ يتحرر الإنسان من إكراهات مادية ولا يخسر طاقاته الحيوية لإشباع الغول الرأسمالي.

التستّر وراء هذا التفسير المبسّط يُخالف المنطق العلمي ويُعمّق الأزمة أكثر على المستوى الفكري، لذا فإنّ المراجعات الموضوعية التي دشّنها أصحاب البصيرة قد تمخّضت عن الاعتراف بأنَّ ثمة عوامل كثيرة نَخرت المعسكر الاشتراكي، لعلَّ أبرزها التنميط وتطويع الواقع لخدمة النظرية واختزال المنهج الفكري إلى مجموعة من العبارات التي تُردّد في المناسبات، أضِف إلى ذلك انعدام المرونة في تقبّل الآخر. كما توظيف المعجم الحزبي لنعت المختلف في الفكر والرؤية بالرجعية والانتهازية، فيما يناقض «المبدأ الديالكتيكي» الذي تقوم عليه الفكرة الماركسية بأكملها.

 

حتمية الانهيار

 

يعتقد إنجلز أنَ الفلسفة الديالكتيكية ترى حتمية الانهيار في كل شيء ولا شيء يستطيع الصمود في وجهها إلّا المجرى المستمرّ للنشأة والزوال، أي سنّة الحياة هي الباقي الوحيد.

 

وما أصاب الفكر الشيوعي في المقتل هو ترقّب أنصاره لنهاية الرأسمالية، مستمدّين قناعتهم ممّا ورد في نصوص ماركس، بينما كان منهج الأخير لصياغة المفاهيم يعتمد على مراقبة حركة الواقع وما يفرزه التطوّر من المظاهر. فبرأيه، الروح نفسها التي تبني منظومات فلسفية في عقل الفيلسوف تبني خطوط السكك بأيدي العُمّال، ما يعني أنّ الفكر غير مُفارق للواقع بل ينهض منه وقد يصبح عاملاً مؤثراً في تحولاته.

 

قدر الرأسمالية

 

المناورة والتفاوض هما مصدر قوّة النظام الرأسمالي، إذ يستفيد من تناقضاته وأزماته لتجديد منظومته الاقتصادية. يقول المنظّر الشيوعي تروتسكي: «الرأسمالية تحيا بالتأكيد على الأزمات وفترات الازدهار الاقتصادي كما يحيا الكائن البشري على الشهيق والزفير».

 

ومن جانبه، يوافق المفكّر المصري سمير أمين، قائد ثورة أكتوبر، لافتاً إلى تعافي الرأسمالية من عثراتها: «لقد نجحت الرأسمالية في تجاوز أزماتها العامة وأكّدت المرونة الكبيرة التي يمتلكها نظامها ودخلت مرحلة جديدة بعد الحرب العالمية الثانية بإذكاء التنافس مع الشرق».

 

ومع زوال الاتحاد السوفياتي، بادرت الأوساط الإعلامية والفكرية التابعة للتيار الليبرالي بإعلان نهاية التاريخ، إذ زفَّت الدوائر الغربية بشارة تتويج النظام العالمي بالرأسمالية بوصفها آخر ما تصله الإنسانية من التقدّم.

 

هل يعني ذلك أنَّ الرأسمالية هي قدر البشرية؟ هل الماركسية كانت أفقاً تمّ تجاوزه؟ أو أنَ هذا النمو المُنفلت مثل السرطان لا يؤدي إلّا إلى الموت؟

 

لا يمكن البَت في هذا الموضوع مهما تضخّمت الأورام في جسد النظام الرأسمالي، مع أنّ أعراض الأزمات لا تفارق هيكلية منظومته، ومن أشدّها وضوحاً الإفراط في الإنتاج وسلعنة القيَم، والإيهام بالحريّة من خلال وفرة القنوات الإعلامية، والهدف الأسمى للرأسمالية ليس وجود الإنسان الحرّ، بقدر ما يريد كائنات مستهلكة. وشَخّص سمير أمين تناقض هذا الكيان بقوله: «لا يمانع النظام الرأسمالي في أن تُشهر السيف بيدٍ وتأخذ بيدك الأخرى علبة كوكا كولا». والانتصار الأهم بالنسبة للرأسمالية تحقّق عندما بدأتَ حملةً لإقناع الجميع بأنَّ الاشتراكية ما هي سوى وجه آخر من الوهم. وانضمَّ عدد من الطلائع الشيوعيين في العالم الثالث لتلك الحملة يروّجون لنفاد صلاحية أطروحات ماركس، ملوّحين بكتاب فرانسيس فوكوياما بدلاً من الكتاب الأحمر.

 

وغاب عن هؤلاء أنّ ما قدّمه ماركس ليس عقيدة إنما كان مشروعاً نقدياً، ويصفه المفكّر البريطاني تيري إيغلتن بأنَّه أعظم «فيلسوف ضد»، وتنطبقُ العبارة على المفكّرين الذين يَصوغون أفكاراً تشكّك في الأفكار أو يشكّكون في أسلوب مفترض كامل. ويتقاطَع ماركس في هذا المنحى مع الفيلسوف المثير للجدل نيتشه، فمن المعلوم أنَ ماركس قد ثارَ وانتقد الفلاسفة، لأنهم قد اكتَفوا بتفسير العالم بينما المهمّة تكمن في التغيير. والحال لا تختلف لدى مؤلف «هكذا تكلم زرادشت»، الذي أعلن أنّ كلّ ما تعامَل معه الفلاسفة منذ آلاف السنين كان مومياوات مفاهيمية. إذاً، فإنّ كل شيء لا بدّ أن يمر تحت مجهر التساؤل، وهذا ما يهدف إليه مشروع ماركس الذي هو محاولة للتحرّر من الوعي المزيّف. وبخلاف ما شاع عن ماركس بأنه قد اختزل الإنسان إلى بُعده المادي، فبرأي المفكّر اللبناني كريم مروة، لم يهمل ماركس دور العوامل غير المادية التي أعطاها اسم العوامل الروحية ولو بنصيب أقلّ في حركة التاريخ.

 

البعد الإنساني

 

لم يشهد التاريخ فيلسوفاً التَفّت حول أفكاره جماهير عريضة من شتى الجنسيات مثل كارل ماركس، حيث اخترقت طروحاته حواجز القومية والإتنية، وأصبح علامة فارقة في مسار تطوّر الفكر الفلسفي، إذ كشف سرّ ظاهرة الاستغلال التي رافقت البشرية في سياقات تاريخية مختلفة إلى أن بَدت بوجهها المُلطَّف في مرحلة الرأسمالية. وقد غاب البعد الإنساني في شخصية ماركس نتيجة الاهتمام بصورة المناضل والمنظّر، غير أنّ المؤلف الإنكليزي فرنسيس وين يلتفتُ إلى اهتمامات ماركس الأدبية، ومعاناته الشخصية مع المرض والفقر المُدقع، ومطاردته من بلد إلى آخر في كتابه «قصة حياة كارل ماركس» الذي صدر مؤخراً من دار السطور. وما يشدّ الانتباه في هذا الإطار هو الصداقة الفريدة بين ماركس وإنجلز، فكان الأخير مصدر الإعانات النقدية لعائلة ماركس. ولم يقتصر دور إنجلز على الدعم المادي، بل زوّد ماركس بتفاصيل مهمّة عن تجارة القطن وحال الأسواق الدولية، وبذلك لعب دور فصيل الاستطلاع خلف خطوط العدو، على حَدّ وصف وين.

 

يفرد المؤلف مساحة لوصف حياة ماركس وتهالك الظروف المعيشية لأسرته في لندن، فكان أثاث وتجهيزات الغرفتين اللتين عاش فيهما أفراد الأسرة مكسورة وبالية، غير أنّ ذلك كله لم يمنع ماركس من مواصلة بحثه وتنقيباته المعرفية في مكتبة المتحف البريطاني. والملمح اللافت في شخصية صاحب «بؤس الفلسفة» هو روحيته المغامرة، إذ رفض أن يقضي حياته مقيّداً بكليشيهات محدّدة، وحين عمل في مجال الصحافة أثارت آراؤه المنشورة جدلاً، لذا لم يطل به المقام في بروسيا، لينتقل إلى فرنسا.

 

وقبَيل نهاية حياته، اشتدّت معاناة ماركس، وعندما زار الجزائر في رحلة استشفائية راسَلَ صديقه هناك، فكتب: «أنت تعلم أنه لا يوجد بين الناس من ينفر مثلي من المظاهر العاطفية، غير أنني سأكون كاذباً لو لم أعترف بأنّ فكري مُنشغل بزوجتي، لقد كانت أفضل ما في حياتي». أخيراً نقتبس كلام الفيلسوف الألماني غوته: «النظرية رمادية، وشجرة الحياة خضراء متجددة خَضِرة».

theme::common.loader_icon