«حكاية زهرة».. نستولوجيا الخوف من الوطن والأهل
«حكاية زهرة».. نستولوجيا الخوف من الوطن والأهل
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Monday, 06-Apr-2020 06:36
في ولوجٍ ملحٍّ بين سيكولوجيا التجميع الداخلي للذاكرة، والتلويح بإيماءات خفيّة نحو الغياب المبكر لصوت الضمائر بين أفراد المجتمع الواحد، في وطنٍ كسرته النوائب، تسيّر الكاتبة حنان الشيخ في روايتها «حكاية زهرة» مركب الحدث على شاطئ بلّوري يعكسُ من الزمهرير عكس ما يُظهر، ومن الرياح غير ما تلوح به أنفاسُ أمواجه الناعمة.

قال سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي، والذي اشتهر بتقنية تحديد الرغبة الجنسية والطاقة التحفيزية للحياة: «العواطف غير المُعلنة لا تموت أبداً، بل تُدفن على قيد الحياة إلى أن يأتي وقت وتظهر بأبشع الطرق». هكذا قدَّمت لنا حنان الشيخ بطلة روايتها «زهرة» التي تمرّغت في إسفلت العلاقات المعقدّة بين الأبوين، بدءاً من طفولتها التي شهدت أمّها كزوجة تخون زوجها، وتقيم مع عشيقها علاقة جنسية «سريّة» على مرأى من طفلتها الصغيرة التي شهدت دوران الطاحون الآثم في عالم الحب المحرّم، وتوالت على ذاكرتها الصغيرة صورٌ مريبة عن أمّها التي تتنهّد في أحضان حبيبها، وأبيها الذي شكَّ بأمّها فانهال عليها ضرباً مبرحاً كعادته، لتهرع الطفلة وتختبئ كعادتها في الحمّام، الذي أصبح القبو السرّي لحياتها المتخبّطة بين الإنصياع لصوت أمّها، رغم خيانتها لأبيها، وتوقها الأزلي لحضنها، وبين سخطها على أبيها الفولاذي القلب، الذي يتسلّح بسوط القمع والإستبداد ليجلد به أنوثتها المتفتّحة.

 

تعلّق وهمي

 

خيط العلاقات المرتبط بوجودها الجلي يلتمس تحرّكات الموجودات، حيث تُتلف الأحاسيس الطبيعية للإنتماء في كيان الطفلة زهرة، وتستبدل تعلّقَها الحسي العياني بتعلّقٍ وهمي غير كائن بشيءٍ مجهول الهويّة، هو الخوف. تستقبل الذعر بكلّ تقلّباته، في تفكّرٍ مشوّشٍ بالحياة، فتكبر لتقيم علاقة جنسية سريّة مع صديق أخيها الوحيد، كأنّها تنتقم لشرف أمّها الذي أُريق في أحضانٍ غريبة، فتفقد عذريتها وتحمل منه سفاحاً ثلاث مرّات وتجهض، فتختلج أحاسيسها بومض الإستسلام المطبق على شفير الهاوية، رغم أنّها لا تحبّ هذا الرجل ولكنّها تنقاد إليه برضوخٍ أعمى. وهنا نذكر قول فرويد: «إنّ كثيراً من الإضطرابات تأتي نتيجة الصدمات العنيفة التي تعجز النفس عن تحمّلها».

 

أوهام صارخة

 

يدفعها الخوف من افتضاح أمرها، بعد أن يصرَّ أبوها على تزويجها من شابٍّ تقدّم لخطبتها، إلى السفر عند خالها المقيم في أفريقيا، وهناك تداهمها الأوهام الصارخة، بسبب فقدانها الثقة بمن حولها، بأنَّ خالها يحاول التحرّش بها، وأنّه يجعل منها هدفاً لنزواته القادمة، فتوافق على الزواج من صديقه الذي تقدّم للزواج منها على أمل أن تنجح في تضليله، فلا يكتشف سرّ فقدانها لعذريتها.

 

هنا تقع الكاتبة حنان الشيخ في فخِّ تشابك الأصوات، إذ تنتقل جزئيّاً لتتكلّم بلسان الخال، الذي يتفاجأ من الطريقة العدائيّة التي تشنّها عليه ابنة أخته، بعد أن وجد فيها ذكريات عمره في الوطن، حين انضمّ للحزب السوري القومي واعتُقل ثم هرب بعد أن فقد الأمل في السلام وفي الحزب نفسه. ثمّ تنتقل لتروي الأحداث بلسان زوج زهرة، الذي عانى الأمرّين من هذيان زهرة، رغم غفرانه لها على خطيئتها، وتخطّيه مسألة «العذرية» التي سُلبت منها، فيصف حالة الجنون التي تعتريها والتي سبّبت له الكثير من الإحراج أمام الناس.

 

ترجع الشيخ في الثلثين الأخيرين لتسلّم مجداف القصّ لزهرة، التي روّعها زواجها من رجلٍ لم تحبه ولم تتقبّله إلّا لإنقاذها من مخالب أبيها المتربّص بها في الذاكرة، فتهجره أخيراً وتحصل على الطلاق وتعود إلى لبنان.

 

القنّاص

 

تبدأ الحرب في واقعية أقرب إلى الخيال، مفرطة في العنف، تتلقّف بشدقها الأرواح البشرية، فيضيع الرجال والشبان بين الموت وتبنّيه، وينضمّ أخوها إلى صفوف المسلّحين «وهماً» في مقاومة الطرف الآخر على مشارف العاصمة، في حربٍ كارثيّة أهليّة سطّرها التاريخ عاراً على جبين الوطن. يهرب أبواها إلى القرية وتبقى وحيدة في المنزل، فيدفعها فضولها للصعود إلى المبنى المقابل، الذي لمحت فيه قنّاصاً متربّصاً على السطح، لتستطلع وجهه وتحادثه، فيقوم باغتصابها بإرادتها، لأنّ الإستسلام بات أمراً مسلّما به في شخصيتها، وتتوالى زياراتها اليوميّة إليه دون تفكيرٍ منها، ولتكتشف حملها في النهاية منه بعد مضيّ أكثر من أربعة أشهر على علاقتهما، ويحذّرها الطبيب من الإجهاض، لأنّ فيه خطراً كبيراً على حياتها.

 

تفكّر في الإنتحار، ولكنّها تقرّر القيام بمحاولة أخيرة، وتخبر القنّاص عن حملها ورأي الطبيب بعد أن أصرَّ على إجهاضها للجنين، ثم تصارحه بمعرفتها بأنّه قنّاص، فيثور في وجهها ثم يطمئنها بحتمية زواجهما، ويخبرها أنّه سيزورها برفقة أهله في اليوم التالي. تغمرها الغبطة وتلج أعماقها بعد صبرٍ طويل، تنزل إلى الشارع وقد بدأ الظلام يتسلّل إلى خلايا السماء، تمشي واثقة الخطى تكاد تطير من الغبطة، لتُفاجأ برصاصة تخترق قدمها فتصرخ مستغيثة، وقد أدركت أنّ حبيبها القنّاص هو من أطلقها، ثمّ ترى الغيوم الكثيفة في السماء تزداد اقتراباً منها، والأصوات التي تستجيب لندائها تخفت من حولها ليلفّها سكون الموت، وتشعر بطلقة أخرى وتتساءل قبل غيابها الأخير بجملة: «هل قتلني لأني حبلى أم لأني سألته إذا كان قنّاصاً»؟

 

ربّما كان سؤال زهرة الأخير بريئاً في ظاهره، ولكنّه يتضمّن مآسي مجتمعٍ عبق بعبودية المرأة، ووطنٍ تجرّع من الحرب حتى سال صبره على بساط الوجع. وقد نجحت حنان الشيخ، رغم تركيبة الحدث وبُنية السرد الأقرب إلى الضعف، أن تقدّم لنا نموذجاً حقيقيّاً من قصة امرأة تكرّرت على مدى عصور طويلة من الزمان.

theme::common.loader_icon