التعليم عن بُعد.. تجربة غنيّة عصريّة
التعليم عن بُعد.. تجربة غنيّة عصريّة
د. سهام رزق الله

أستاذة مُحاضرة في كلية العلوم الاقتصادية لجامعة القديس يوسف

Tuesday, 17-Mar-2020 05:59

صحيح أنّ الحاجة أم الاختراع، إلاّ انّ التعليم عن بُعد ليس فقط وليد الأزمات وضرورة التواصل خلالها، إنما هو تجربة غنية عصرية، تواكب الشباب المتمكّن من التكنولوجيا والمستفيد منها، لجعلها وسيلة حضارية تتخطّى كل الحدود الجغرافية وتفتح آفاق المستقبل.. فما هي أسرار جاذبية هذه البرامج التي تعتمدها كبرى الجامعات من أوروبا وأميركا وصولاً الى جامعات لبنان المصنّفة دولياً، وأصبحت مرجعاً فيها؟ وأي مميزات يمكن رصدها للطلاب والأساتذة والباحثين والمؤسسات العلمية والعملية في هذا المجال؟

 

بين حاجة التعليم في حالات الطوارئ وضرورة مواكبة التكنولوجيا الحديثة واعتماد الوسائل العصرية التي باتت في متناول الشباب من صِغر سنهم وتوجيههم الى حسن الإستفادة منها ومن آفاقها في تخطّي المسافات والظروف، وجعل أي بقعة في العالم مقعداً دراسياً ومنصّة تعليمية، تتقاطع البرامج التعليمية المعروفة للتعليم Moodle و Microsoft Team عن بُعد بين «موديل» و»مايكروسوفت سيمز» وغيرها حوّلها أساتذة وطلاب وباحثين وإداريين من كبرى الجامعات في لبنان والعالم...

 

أما ميزة القطاع التعليمي اللبناني، خصوصاً في المؤسسات التربوية والجامعية الكبرى، هي كونها كانت أساساً مجهّزة وتزداد إستعداداً للتعامل مع هذه المنصّات الإلكترونية وبرامج التعليم عن بُعد، إن لناحية الاشتراك السابق في معظمها أو لناحية التهيئة الأساسية لكوادرها التعليمية والادارية عليها، أو لناحية مواكبة وتحضير طلابها لاستعمالها ولو جزئياً بالتزامن مع الحضور في الصفوف، أو للتعامل مع الأدوات التكنولوجية عموماً، بحيث لا يشكّل قرار التعليم عن بُعد مفاجأة مقلقة لهم...

 

أما الانتقال من التعامل الجزئي والاختياري الى التعامل الكلي والالزامي لهذه الوسائل العلمية المتطوّرة فهو تحدٍ من جهة، وفرصة من جهة أخرى، ما كانت ربما لتحصل لولا هذا الضغط الطارئ لاعتمادها. ولا بدّ من التمرّس عليها واعتمادها، في ظلّ عالم يتّجه الى تخطّي المسافات الجغرافية ويبني عالماً إفتراضياً ويختصر المسافات ويجعل الكرة الأرضية قرية صغيرة يمكن زيارتها بكبسة زر من أصغر طفل في أبعد نقطة في العالم.. فكيف بالحري من شباب متعلّم متمكّن علمياً وتكنولوجياً، ويتهيأ لدخول سوق عمل، هو بدوره يتخطّى الحدود الجغرافية، ويوظّف في شركاته خبراء ومستشارين من بلد الى بلد عبر شبكات الانترنت من دون الحاجة الى انتقالهم الى الحرم الأساسي لمركز العمل...ومن منا لا يعرف أصدقاء يعملون من منازلهم أو من مكاتب تمثيلية لمؤسسات خارج الحدود عبر المنصّات الالكترونية؟

 

من هنا، وبغض النظر عن الأوضاع الطارئة التي ضغطت للمضي بنحو أسرع في هذا الاتجاه، التعلّم عن بُعد له مزايا عدة:

ـ أوّلاً، إعداد الشباب الجامعي المُقدم على سوق العمل للتعامل مع كبرى الشركات العالمية المتعاملة مع منصاته. ومن الأفضل طبعاً أن يبدأ تمكين الجيل القادم، الذي لا يزال اليوم في المدرسة، على التكيّف مع هذه التقنيات بكل سلاسة وفعالية.

ـ ثانياً، في ظلّ الكلفة المرتفعة لإنتقال الطلاب الساكنين في مناطق بعيدة، وأكثر منها كلفة الانتقال للإقامة في المدن، حيث الغالبية العظمى من الكليات والاختصاصات. في حين ثمة وسائل تسمح لهم باللقاءات التفاعلية وبمتابعة الدروس عن بُعد واختصار الوقت والتكاليف وتخفيف الضغط على المدن والمساهمة في تراجع الازدحام والتلوّث والضغط على الخدمات...وبدل اختصار استخدام الانترنت على البريد الالكتروني ونشر ملفات دراسية عبر منصّات الكترونية أو التداول بالفيديو وتسجيل مقاطع مسبقة، لا بدّ من الانتقال الى اللقاءات التفاعلية والصفوف المباشرة عبر التعليم عن بعد.

ـ ثالثاً، تسمح منصّات التعليم عن بُعد للأساتذة باستخدام لغة العصر وتقنياته والتحدّث مع الشباب بلغتهم، وقد أثبتوا أنّهم سباقون في استخدام هذه الوسائل ولا يحتاجون حتى للتدريب عليها، فهم ينطلقون بسهولة وحماس ومبارزة في إثبات قدراتهم وإرشاد بعضهم بعضاً على خصوصيات كل منها.. فيرتاحون في التعامل مع الأساليب التي تلج ملعبهم وتحاكي يومياتهم.

ـ رابعاً، عادة ما يُدعى الطلاب الى العمل الجماعي القيّم، الذي يدرّبهم على المشاركة وتوزيع الأدوار وإظهار المشاركة وإبراز مساهمة كل فرد ضمن المجموعة. فبدل البحث عن الوقت والمكان المُشترَك، يجدون أساساً في المنصّات الالكترونية المكان الأنسب للتواصل لتنفيذها.. من هنا، يساعد التعليم عن بُعد في إيجاد الإطار المناسب واستخدام المنصّات الأفضل رسمياً لهذا الغرض، بدل اختيار كل مجموعة لوسيلة الكترونية مختلفة، ربما لا تجتمع فيها كل المزايا والخدمات المطلوبة والممكنة.

في التعليم الكلاسيكي، يتمّ تنفيذ المشاريع الجماعية عموماً على Skype و Facebook والنص. وينطبق الشيء نفسه على التعليم عن بُعد، حيث يتمّ التشديد على العمل الجماعي وفقًا للدورة المختارة.

ـ خامساً، يسهم التعليم عن بُعد في الارتقاء من نقل المعلومات، التي هي أساساً متوافّرة بين يدي الطالب، الى النقاش والتحليل والمشاركة وضرورة التركيز الدائم أثناء الحصة، حيث الجميع في نقل مباشر متأهّب لأي لحظة يُعطى فيها الكلام وتُنقل نحوه الصورة. ومن الضروري أن يكون مصغياً لما حُكي قبله ومتابعاً لما سيُقال بعده، كونه تحت المراقبة صوتاً وصورة، ليس فقط مقابل الأستاذ، بل مقابل جميع زملائه.

ـ سادساً، يساعد التعليم عن بُعد في تدريب الطالب على الانضباط وحسن إدارة وقت العمل بكل نضج وثقة ومسؤولية، وإجراء البحوث وتنظيم إيقاع العمل وفقًا لجداول زمنية. والثقة التي تُعطى له وتحمّل المسؤولية لتأمين حسن استخدام التكنولوجيا واحترام خصوصية المساحة المعطاة لمواضيع محدّدة وعدم الخروج عنها، واحترام أوقات المشرفين والزملاء والالتزام في الوقت المخصص لكل موضوع قبل الانتقال الى غيره..

ـ سابعاً، التدريب له تكلفة معينة ولكنه استثمار حقيقي للمستخدمين يسمح لهم باكتساب مهارات عدة الى جانب المادة العلمية، لا بدّ أن تظهر ثمارها في أدائهم ومسارهم العلمي والعملي على المديين القريب والمتوسط والبعيد.

ثامناً، يسهم التعليم عن بُعد في تقريب العلاقة والتواصل بين الأساتذة والباحثين والطلاب خصوصاً مع منتدى المناقشة، والتداول بالفيديو والشعور بالانتماء الى شبكة معينة وفريق واحد يتشارك الأدوات المُستخدمة من كل فرد ويعمل للنجاح سوياً ضمن المجموعة.

ـ تاسعاً، يسهّل التعليم عن بُعد بناء شبكة تساعد في التنشئة الاجتماعية لكل وسائل التواصل عن بُعد في مختلف الميادين، والتي لا تُكتسب بالاستخدام غير المنتظم لوسائل التواصل الاجتماعي التي تختلف أحياناً كثيرة عن قواعد التعامل الاجتماعي المباشر.

ـ عاشراً، التعليم عن بُعد اليوم هو بطاقة عبور لكل التعامل الصحيح والعلمي والفعّال عن بُعد مهنياً وإجتماعياً، حيث بات اليوم التعامل في لقاءات وإجتماعات عملية ونقابية وحزبية وإجتماعية في منظمات غير حكومية محلية ودولية يتمّ بهذا الشكل بكل إنتاجية وأفضل النتائج.

theme::common.loader_icon