أوسكار وايلد ضحية العبقرية
أوسكار وايلد ضحية العبقرية
كه يلان محمد
Saturday, 01-Feb-2020 06:12

من المقولات التي تتردّدُ كلّما يدور الحديثُ عن معاناة المبدعين الكبار أنَّهم ضحية المجتمع وتقاليده وأعرافه. فقد سبق هؤلاءُ زمنهم وهذا ما يؤكّدهُ نيتشه، مُعلناً بأنَّه فيلسوف الأجيال القادمة. طبعاً هذا الرأي لا يجانب الصواب، فإنَّ عدداً من العباقرة قد ناصبهم المجتمع العداء نتيجة سوء الفهم لرسالتهم وأفكارهم الجديدة، فبالتالي كان مصير هذا الصنف من البشر مأساوياً في معظم الأحيان.

يجري كثيرٌ من الماء تحت جسر الزمن قبل أن يتمّ الإعتراف بمنجزاتهم الإبداعية، وهذا ما حصل مع ماركيز دوساد وبودلير ورامبو وجيوردانو برينو، كذلك الأمرُ بالنسبة للشاعر والأديب الأنكليزي أوسكار وايلد، مع أنَّ الأخير قد طبقت شهرته الآفاق وصعد إلى صف المشاهير في زمنه غير أنَّ الأزمة التي حلّت به قد غيّرت مسار حياته وأوصدت دونه باب الراحة والهدوء. إذاً لم يعد أوسكار وايلد إلّا فرداً منبوذاً في المجتمع وعوقب بالإقامة في السجن. لكن هل يلقي صاحب «الأمير السعيد» بمسؤولية مصيره التراجيدي على كاهل المجتمع؟ يعترفُ وايلدُ في الرسائل التي كتبها من السجن وتحمل عنواناً دالاً «من الأعماق»، صدرت ترجمتها بالعربية من دار الرافدين، بأنّه وراء تدمير نفسه مضيفاً، «كنت المدمّر الوحيد لعبقريتي الخاصة، ولكن الغريب أنّ ضياعي وإهداري لشبابي كان يهبني شعوراً خاصاً بالبهجة». والملفت في سياق ما تضمّه الرسائل، كلام وايلد عن نبوءته في أعماله الأدبية بما سيتذوقه من المرارة والمعاناة. ويستدعي بين جدران السجن مغزى مقطع من قصيدة لغوته يسمعه من أمه، «إنَّ من لم يأكلْ قط خبزه بحزن، ومن لم يقض ساعات منتصف الليل يبكي وينتظر الغد لا يعرفك أيتها القدرة الإلهية». فكانت ملكة بروسيا تستحضرُ المقطع نفسه عندما وقعت في أسر نابوليون، وأمعنَّ الأمبراطور في التنكيل بها. وما أن يسمع أوسكار وايلد من أمه هذه العبارات حتى يخبرها بأنّه لا يريدُ أن يأكل خبزه مغموساً بالحزن. إذ لم يفكرْ أوسكار وايلد قبل تجربة السجن إلّا بالمتعة التي أرادها أساساً لفلسفته في الحياة. لكن وايلد يقرُّ لاحقاً بأنَّ أمه قد فهمت طبيعة الحياة، وتبدّى فهمها العميق في ترديدها لكلمات الشاعر الألماني.

 

يسردُ وايلد فيما دونه من سجنه ألم الخيبة بالصديق الذي خذله. فمن المعلوم بأنَّ علاقة الصداقة التي تحوم حولها الشبهات بين أوسكار وايلد وألفريد دوغلاس كانت مصدر المأساة في حياة مؤلف «صورة دوريان غراي»، مما يزيدُ الطينُ بلةً هو تحوّل وايلد إلى طرفٍ في الصراع القائم بين دوغلاس ووالده، وانتهى به داخل سجن ريندنغ.

 

مراجعات

يتفاقمُ الشعورُ بالألم لدى أوسكار وايلد جرّاء موقف صديقه الأناني. إذ يذكّرهُ بغروره الذي أفقده البصيرة والإتزان. لافتاً إلى أنّ البغض يعمي البصائر، كما أنّ الغرور يخيط الجفون بأسلاك من حديد. ويتحسرُ على ما خسره من مكانة اجتماعية ورثها من أسرته. ولا ينكر بأنَّه قد لطّخ اسمه. وما يضاعف من عذابه، هو حرمانه من العاطفة الأبوية ومن دفء الأسرة. ومن ثُمَّ يسجل أوسكار المشهد الذي يؤلمه جداً عندما كان يقفُ في محطة كلافام جانكشن، يمرُّ به ركاب القطار مُتهكمين به، ولم يتمكن تجاهل هذا الوضع المزري. لذا لمدة عام كان يتذكّرُ كل يوم هذا الحدث ويبكي بالحرقة. ومما طبع في ذهنه واعتبره تصرفاً سامياً، هو موقف رجل أبداه حين رأى أوسكار وايلد يقتاده جنديان، قد رفع قبعته، إذ يقول: «قد ذهب رجال إلى الجنة لأمور أصغر من هذه» وعلى هذا المنوال يراجعُ أوسكار وايلد وقائع حياته مستغرباً لؤمَ صديقه الذي أسدى له الصنيع الجميل. وأسرف عليه بالسخاء وتحملَّ حماقاته لدرجة جازف بأن يكون متخندقاً معه ضد والده، إلى أن أفلس وتمّ حجز كتبه وأثاث منزله وأعلنوا بيعها. ومن بين كل ما خسره يتأسفُ أوسكار وايلد على محتويات مكتبته، بما فيها مجلدات أُهديت إليه من شعراء عصره هوغو وهوايتمان ومالارمى وفرلين، هذا إضافة إلى الجوائز الفخرية التي حصل عليها من المدارس والكليات. وفيما هو يقبع في سجنه يغتبطُ وايلد على السجناء الآخرين الذين ينتظرهم أفرادُ أسرتهم.

 

في كل مفصل من رسالته المطولة يستحضرُ أوسكار وايلد قساوة صديقه والأثمان الباهظة التي دفعها من أجله. إذ كان يترصّدُ به والد دوغلاس في كل مكان. وكلما أراد وايلد الإبتعاد عن صديقه كان يتوسل إليه الأخير، أو يقعُ ما يحدو بوايلد للعودة إلى دوغلاس. وما أن يصل إليه خبر مقتل الأخ الأكبر لدوغلاس حتى يغفر له ويصالحه، ظناً منه بأنّ ذلك التصرّف يخفف من حدة مصابه. ولا تنتهي قصة وايلد بذلك، بل يكتبُ مقالاً باسم دوغلاس حتى يكسبه الثقة بالنفس.

 

تأملات

قد تكون شخصية أوسكار وايلد وميوله المثلية معروفة بالنسبة للجميع. وبإستثناء بعض تفاصيل عن ملابسات محاكمته وسجنه، ربما لا تكشفُ الرسالة ما يُعدّ موضوعاً جديداً على هذا الصعيد. لكن تأتي أهمية هذا الأثر الأدبي مما أفرد فيه صنو ماركيز دوساد، من تأملاته للحياة والأطوار التي يمرُ بها الإنسان ومفاهيم الإيمان والدين والأخلاق والإبداع، يعلن وايلد «بأنَّه لا يوجدُ كتاب أخلاقي أو غير أخلاقي. توجد كتب أُلفت بطريقة جيدة وأخرى كُتبت بطريقة سيئة». وتستشفُ من مضمون عبارات الأديب الأنكليزي شغفه بالقراءة، يقولُ: «حتى لو لم تتسنّ لي إنجاز كتب جميلة فإنني سوف أقرأُ كتباً جميلة. وأي سرور أعظم من ذلك». ومن أهم ما يتوصل إليه أوسكار وايلد هو إدراكه لمساوئ السطحية، حيثُ يعتبرها أعظم الرذائل. ضف إلى ذلك، يقتنع بأنَّ سرّ الحياة هو الألم، مشيراً إلى أنّ السرور صفة للأجساد الجميلة، أما الأرواح الجميلة فليس لها سوى الألم. ويقتبسُ في هذا الإطار عبارة «وردزوث»، «المعاناة دائمة وغامضة ومظلمة ولديها طبيعة الأبدية». كما يوافق مواطنه حول هدف الشاعر المتمثل في تأمّل مناظر الحياة بعواطف متناسبة.

 

يشارُ أنّ وايلد يتناول الروابط بين الجمال والغرابة، مؤمناً بأنَّه أينما وجد الجمال، وجد معه قدراً من الغرابة. ويسترسل وايلد في تأملاته، ويبدي إعجاباً كبيراً بالمسيح، علماً بأنَّه لا يحتاج إلى الأخلاق ولا الدين. ويفصحُ عن رغبته في إنشاء دين جديد يجمعُ تحت مظلته الأشخاص الذين فقدوا القدرة على الإيمان. غير أنَّه يحاول أن يفهم الحياة إنطلاقاً من سلوك المسيح. لذا يطيبُ له وصف رينان للمسيح بأنَّه قائد كل العشاق، وأنّ الحب هو طريق الإنسان نحو قلب الأبرص أو أقدام الله. أكثر من ذلك، يعتقدُ بأنَّ المفتاح الرئيسي للفن الرومانتيكي والأساس الصحيح للحياة الطبيعية هو ما قاله المسيح عندما سُئل بشأن المرأة المخطئة: «من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها». ولم يكن هدف المسيح حسب وايلد إصلاح الناس بقدر ما أراد تخفيف معاناتهم. كما أنّ تحويل لص يثير الإهتمام إلى تقي يثير الضجر، ليس ضمن برنامج المسيح. ويعترفُ أوسكار وايلد بأنَّ نقطتي التحوّل الكبيريتين في حياته كانتا حينما أرسله والده إلى أكسفورد، وعندما أرسله المجتمع إلى السجن.

 

يُذكر أنَّ ما كتبهُ وايلد في رسالته قريب في محتواه من أفكار الزهاد الذين تتقاطع حياتهم مع الفنانين في خطوط كثيرة.

theme::common.loader_icon