التكنوقراطية
التكنوقراطية
هنري صفير
جريدة الجمهورية
Saturday, 25-Jan-2020 06:59

 

منذ 17 تشرين الأول حتى الآن لم تنقطع المطالبة بحكومة تكنوقراطية. وأخيراً، عندما تألفت الحكومة الحالية سمعتُ دولة الرئيس الجديد يعلن من القصر الجمهوري أنّ الحكومة المؤلّفة هي حكومة تكنوقراط.

 

هلّا أدركَ المنتفضون معاني التكنوقراطية؟

 

إنّما أعتقد أنَّ دولة الرئيس يُدركُ معاني التكنوقراطية.

 

التكنوقراطية، نظام سياسي يمنح التقنيين نفوذاً يكون غالباً على حساب الحياة السياسية نفسها، تقوم سلطتهم على دراسات نظرية معمّقة للنشاطات الاقتصادية والإنمائية، من دون إيلاء العوامل الانسانية أهميّة كاملة. ولعلَّ أخطر شكل من أشكال التوتاليتارية بدأَ فعلاً، ويشكّل في المستقبل، تهديداً أكثر خطورة، وهو في الظاهر أقل عنفاً، لكنه في حقيقته، عنيف جداً، وشديد الخطر على الانسان، نحن نعني به: التكنوقراطية.

 

* * *

إنّ سلطة التكنوقراطيين لا تحاول أن تجتذب أو تغتصب موافقة المواطنين، لأنّها لا تؤسس شرعية وجودها، وشرعية عملها، على إرادة الأكثرية المطلقة، ولا على سلطة أو قوّة أقليّة حاكمة، وإنما على الإجماع التوافقي التقني على القوانين التي اعتنقتها بإجماع هذه «الطبيعة المجدّدة»: التي هي المجتمع.

 

في الظاهر، ليس لسلطة التكنوقراطيين أي مظهر سياسي، أي لا يجري عليها أي جدل أو بحث حول الغايات، لأنّها ترتكز على تطابق مجموعة وسائل مقبولة لدى كل الناس، وأهداف مرجوّة منهم أيضاً، كالبحبوحة، والإنماء الاقتصادي، وتنظيم المجتمع، وتفعيل الطاقات وتحفيزها.

 

ولا تحاول التكنوقراطية أن تغيّر البنى الموضوعة، أو الرجال الحاكمين، إلاّ أنّها تفرض سلطتها بوجوب البحث عن هذه الوسائل والأهداف المُعترف بها والمرجوّة بالأساليب العلمية، التي هي أيضاً ليست محور جدل لدى المجتمع.

 

وخلافاً للأنظمة التوتاليتارية، والأنظمة البوليسية، التي تكوّن في رحمها بذور المعارضة لها، حتى ولو قمعتها في ما بعد بالقوّة، فإنّ النواقص والأخطاء في النظام التكنوقراطي لا يمكن أن تجعل الشرعية الأساسية للدولة موضع جدل، لأنّها لا تستدعي إلّا مداواة تقنية.

 

والواقع، انّ مجرد البحث عن مداواة تقنية يزيد النظام التكنوقراطي قوّة ومنعة، لأنَّ هذه المداواة هي من صلب النظام التكنوقراطي، ومن اختصاصه، وتنسجم معه، بدلاً من أن تولّد في أرجائه وحناياه معارضة ثورية.

 

لذلك، نرى أنّ المؤسسات التربوية نفسها، وتحديداً الجامعات التي هي، في أيّ نظام سلطوي أو بوليسي، مناجم للرفض والثورة والاعتراض، تتحوّل في النظام التكنوقراطي الى دعامة للسلطة، ومساهمة من كل فرد في عقلانية القرارات، حتى ولو كانت هذه العقلانية واقعية أو مفترضة.

 

إنّ عقلنة القرارات، تصبح في النظام التكنوقراطي، الوسيلة التي تؤمّن تناسق المجتمع في ما بين أعضائه، وتكفل بذلك ديمومته.

* * *

سنة 1941، ظهر في المكتبات كتاب لـ«جيمس بورنهام» اسمه «الثورة الإدارية»، رأى فيه أنّ الحكم وفق مبادئ الإدارة العقلانية هو السبيل أو الخيار الثالث بين الرأسمالية والاشتراكية.

 

فجاء هذا الكتاب تعبيراًَ عن التجانس العميق مع الأشكال الأنكلوسكسونية للتكنوقراطية العصرية. وبعد دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، والهيبة التي أظهرتها في القدرة على الإنتاج الصناعي الحربي، تنامت هالة التكنوقراطية، خصوصاً مع تدفّق المعلومات على أوروبا عن الأساليب والطرائق الناجحة التي اتّبعها هنري فورد (Henry Ford) وسواه من الصناعيين الكبار في أميركا.

 

ومع تعلّم أوروبا الأساليب الصناعية، والقدرة الانتاجية الأميركية، وأبرزها الـ«Taylorism» أي طريقة التنظيم العلمي للعمل الصناعي من خلال توظيف الآلة بحدّها الأقصى، والاستغناء عن الجهود غير المجدية، وكذلك طريقة الـ«Standardisation» أي التزام نموذج صناعي متكامل، يتلاءم مع تصاميم وقياسات مقرّرة مسبقاً، من دون أي خروج عن هذا المألوف الصناعي، لا شيء يمكن أن يقينا طغيان بُنى اجتماعية ذات قدرة كلية، كالتكنوقراطية المتيقّنة بأنّها تملك وتحقّق العقل النهائي الأعمق والأشمل والأكمل، إلاّ بُنى أخرى عضوية وحقيقية قادرة على أن تحافظ على شمولية الانسان الطبيعية، وعلى صيرورته الماورائية، فترفض تأليه أهداف الدولة التكنوقراطية وترفض اطلاقية القوانين الطبيعية، وتذكّر الانسان بأنّه مهما كانت العقلانية أبعد وأشمل، فله أبعاد أكثر عمقاً وشمولية. ويجب أن تكون له طموحات وأهداف أبعد من الطبيعة الكائنة.

 

وتذكّره أيضاً بأنّ كثيراً ما يصل الإنسان بقلبه إلى حيث لم يستطع أن يصل بعقله.

* * *

عندما عاد الجنرال ديغول الى الحكم سنة 1958 اختار معظم معاونيه من بين التكنوقراط. وبعد فترة قصيرة أدركَ محاذير تسليم الحكم لجماعة تكنوقراطية تنظّر من دون أن يكون لها التصاق عضوي بحاجات الناس الحيوية، وسرعان ما تخوّف على الديموقراطية من تنظير التكنوقراطيين، برغم ما كان يكنّه لهم من تقدير واحترام.

 

ولئلا يولّد ضمن الدولة بُنى تقتل الديموقراطية فيها، طلب من بعض هؤلاء التكنوقراطيين أن يترشّح في الانتخابات النيابية، وذلك حتى يعودوا الى الناخب ويتعرّفوا على حاجاته الواقعية، وليس النظرية: التقنية وُجدت من أجل الإنسان، وليس العكس.

 

ويبقى تناقض هائل بين «العلم» و«العلماوية»، لأنّ العلم هو في خدمة الانسان، أما العلماوية فتؤلّه العلم وتصمده صنماً لتعبده.

 

إنّ الحدّ من تسلّط التكنوقراطية،هو في أن ندافع عن الانسان ضد لا انسانية بعض أعماله وتصرفاته، أي نحميه من غلواء لا إنسانيته. ولكي نفهم ذلك، علينا أن ندرك أنّ جوهر السيطرة التكنوقراطية ذو وجهين واضحين مختلفين:

 

فالتكنوقراطية متعيّة Hedoniste في الخلقية، وقدرية في الماورائية. بمعنى أنّ القيمة الوحيدة للتكنوقراطي هي السعادة، والبحث عن السعادة يشكّل الفضيلة المطلقة في حدّ ذاتها.

 

وفي هذا المعنى، نرى أنّ التكنوقراطي هو الوريث المباشر للمناقبية التطهيرية الصارمة التي أظهر «ماكس فيبر» Max Weber أنّها هي التي أسست سلّم القيم لبداية الرأسمالية الحديثة.

 

والمستقبل ينذرنا بخطر أشمل مع ثورة المعلوماتية التي تزيد التكنوقراط قوّة وفاعلية، وتُبدّل علاقتهم بعالم السوق.

 

فبدلاً من أن يكون نجاح التكنوقراط مرتبطاً بعلاقتهم بعالم السوق، سيصبح في ما بعد استمرار عالم السوق مرتبطاً بالخضوع لإرادة التكنوقراط.

 

... وفي آخر لقاء مع الرئيس الراحل نيكسون قال لي:

 

ـ «علينا أن لا ننسى، «الكومبيوتر» هو من فولاذ وليس من لحم ودم».

 

وهكذا، لو وقعنا في التكنوقراطية البحتة، تصبح الحرية الوحيدة التي يستطيع أن يتمتّع بها الانسان، هي أن يقبل الخضوع للقانون الآلي في البحث عن التقدّم والإنماء.

 

theme::common.loader_icon