«أسوار» لمحمد البساطي.. جنونٌ على حافة القمع
«أسوار» لمحمد البساطي.. جنونٌ على حافة القمع
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Saturday, 25-Jan-2020 06:48
قال الأديب الفرنسي فيكتور هوغو: «ليس هناك جيش أقوى من فكرة حان وقتها». وقد اختصر الكاتب محمد البساطي فكرته بل نقمته على الوضع السياسي السائد في بلده برواية ضمّت الحقيقة وقدّمت الواقع دون رتوش.

يتساءل الكاتب في روايته «أسوار» بأسلوبٍ مباشر، عن التجاوزات الإنسانية والسياسية والإجتماعية والأخلاقية التي تُمارس على المجتمع العربي. مختصراً إيّاه في مكان الحدث الذي صاغه لانسياب قصته على إيقاعٍ تراوح بين الإحتواء والنفي للأمور اليومية التي تدور بين المعتقل والسجن والبيت للراوي، في تصويبٍ خارق للعيوب المطموسة تحت شعار الحق.

 

سالم هو بطل القصة، ويرويها بحكمة واتزان، عن السجن حيث عمل والده كحارسٍ فيه، ثمّ انتهى به الأمر بعد التقاعد إلى الجنون المبرم كأصدقائه الذين سبقوه إليه، فأصبح يرتدي بذلة الميري مقلّداً الأطفال في حركاتهم، متأتئاً في الكلام الذي تندّ عنه تصرفات غير عقلانية، ولا تتحمّل زوجته الصدمة فتموت بحسرتها.

 

بعد زواج سالم ومن ثمّ فقدانه لأبويه، وعمله خلفاً لأبيه كحارسٍ في السجن، يشهد على قصصٍ في منتهى الغرابة هناك، حيث الشذوذ الجنسي المتفشّي الذي يعمُّ السجناء المحرومين من النساء هناك، ومنطق القوة والاستبداد، والظلم الذي يسنّ شرائعه ويسيطر القوي على الضعيف مثلما يحصل خارج السجن، ثمّ تحدث حالات وفاة مفاجئة مشتبه في أمرها، جرّاء أمرٍ يصدر من القادة حتى لا يُفتضح أمرٌ لا مصلحة للحكومة في الكشف عنه.

 

يقرّر سالم أن ينتقل لحراسة المعتقل بدل السجن، لأنّه يشعر براحةٍ نفسية في التعامل مع المعتقلين أكثر من السجناء، ويسعى الى تحقيق مأربه متوسّلاً رائد المعتقل لتلبية طلبه، فيوافق الأخير مقابل أن يحضر له قطع الحشيش بالسر.

 

ينتقل سالم إلى المعتقل، وعمله محصورٌ في ضرب المعتقلين الذين يفدون تباعاً الى المعتقل، راوياً قصصاً غريبة عن توريط الرائد للسجناء في عمليات ترهيبٍ في الخارج، حيث يتمّ إرسالهم لضرب أحد الصحفيين المهدّدين للنظام، أو تعتيم الجوّ المظلم السائد في معاملة الرائد والمأمور للمعتقلين، أو تصوير النظام كساحة للديموقراطية والإنفتاح من خلال حثّ المعتقلين على إصدار جريدة سريّة تفضح كلّ ما هو مشكوكٌ فيه في السياسة، ثمّ ضربهم ضرباً مبرحاً على إتيانهم الأمر. وبالرغم من كلّ هذا، يُمنع المعتقلون من أن يتوقفوا عن إصدار الجريدة، حتى تعرف الحكومة اتجاهات تفكيرهم وتحليلهم ومنطقهم، ولإعطاء صورة مشرقة للخارج، عن الحرّية التي تُمنح لهم وهم المقموعون البؤساء.

 

تنتهي القصة كما بدأت، بتباشير جنونٍ بدأت تلوح في ذهن سالم بعد تقاعده كما جرى لأبيه، وكأنّ سنوات الذلّ والظلم التي شهدها السجناء والمعتقلون انعكست ظلالاً قاتمة تكدّست في أرواح العاملين في السجن والمعتقل، لتجمّد أذهانهم على لحظة الإنكسار التي تطرأ على شيخوخة الإنسان، وتجعل ذاكرته انعكاساً للوجع والعقاب الذاتي وتأليب الضمير، فجفاهم الأسى وكواهم الماضي بحرقته، ورسب الضّيم الجارف الذي شهدوه من رؤسائهم ووقع على رؤوس المساجين في تجويف الثنايا القابعة بين الوعي واللاوعي، فتجمهرت الذكريات في حدود الإنكسار، ودبّ الجنون على حافة القمع الذي مورس لسنوات طويلة ومريرة على البسطاء، ولم يحتمل المشهد العقل الإنساني العادي فانفجر عن هذيانٍ وعته.

 

محمد البساطي، بأسلوبه الروائي المتماهي بالوصف الواقعي، اكترى التعابير المجازية ليسخّرها في تصوير الحقائق الثابتة، والشواهد البارزة، ووصف البيئة الإجتماعية للقصة وصفاً دقيقاً، كالفتاة العذراء التي تظهر في منزل كلّ فتى يكبر ويصبح في سنّ الزواج، وتكون من الجيران أو الأقارب، لتفرض نفسها ويفرضها الأهل على العريس المرتقب، مع جهازها وأمتعتها، والعادات التي تفرض حتمية هذا الزواج، ويثبّت ركائز الحبكة على الظلم السياسي الذي تفرضه حكومة البلد الرازح تحت نير الحكام الظالمين، دون إرباك ذهن القارئ أو بتر المواقف الإتهامية المباشرة التي تدين السجّان قبل المسجون، مستشهداً بقصصٍ ما زالت تحدث في كلّ مكانٍ وزمان.

theme::common.loader_icon