الأزمات الوجودية المتشابكة في رواية «النوم في حقل الكرز»
الأزمات الوجودية المتشابكة في رواية «النوم في حقل الكرز»
كه يلان محمد
جريدة الجمهورية
Friday, 17-Jan-2020 06:22

معالجة الإشكاليات الحضارية والثقافية، إلى جانب محورية المفاهيم الوجودية هي ما يتميّزُ به الاشتغال الروائي، إذ يتحوّل العمل الأدبي إلى فضاء تتجاورُ ضمنهُ الآراءُ والفرضيات بشأن الهواجس الإنسانية من الموت والحياة والغربة والهوية. هذا إضافة إلى مناقشة الأزمات المباغتة التي تفرضُ بدورها أسئلة جديدة.

أدرك الكاتب العراقي أزهر جرجيس خصوصية العالم الروائي وانفتاحه على شتى المواضيع، لذا تمكّن من تمرير أسئلة متشعّبة من خلال نصّه الروائي «النوم في حقل الكرز»، الذي وصل إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر، حيثُ يضع المتلقّي أمام واقع مثخن باحتمالات مرعبة. وما يضاعف من القيمة الأدبية لهذا النص هو عنصر اللغة المشحونة بإيحاءات بصرية، إضافة إلى المستوى الجمالي لهذا الجانب، فإنَّ الانفعالات النفسية يتمُّ التعبيرُ عنها عبر الفنون البيانية، وذلك ما يشدُّ المتلقّي إلى أجواء الرواية وسردها المنساب على إيقاع الأزمات التي تلاحق شخصياتها، وتستشفُّ مما يضمّهُ العملُ بأنَّ الرغبة هي الدافع وراء حركة الشخصية الأساسية «سعيد»، وما يسمعهُ من أحد السوّاح حول بلد النرويج وشحّة الرجال فيه مع وفرة الملذات الحسية التي تداعب خياله، متوقّعاً بأنَّ هذا البلد يعوّض خساراته المتراكمة، وبذلك يتحقّق حلم الوطن البديل، غير أنَّ الانتماء لمكان المنشأ يتجدّدُ نتيجة عدّة عوامل، منها الحربُ على العراق ومُتابعة سعيد لوقائعها، هذا فضلاً عن الكوابيس التي تداهمه، إذ يتخيلُ وجود والده سائلاً إياه عن قبره. وهو لا يعرفُ شكل ناصر عدنان الذي راح ضحية لسياسة متوحّشة، وما سمعهُ على لسان الآخرين عبارة عن معلومات مُتضاربة، فثمّة من يقول بأنه مات تحت التعذيب كما وصله خبر مقتله وإطعام جسده للكلاب، وأبلغ سعيد أيضاً بأنَّ والده قد قتل ومن ثمَّ رمي في نهر دجلة الكتوم. هذا التفصيل بشأنَّ مصير ناصر عدنان يوحي بمحورية قصته في مسار الرواية، إذ لا يغادر طيف الوالد مخيّلة سعيد، ما يعني أنَّ هذا الموضوع يشكّلُ عقدة بالنسبة للابن الذي يهمّهُ البحث عن الحلقة المفقودة وسدّ الفراغ في برواز ينتظرُ الصورة.

 

موطن الاحلام

تُورَث المأساة في ظلّ النظام الاستبدادي حيثُ يخسرُ فيه الإنسانُ مقوّمات كينونته، ويصلُ التوحّش لحدٍّ تُحرمُ الضحية من حقّ أن يكونَ لها أثر يؤشر إليه بعد تصفيتها جسدياً، الأمر الذي يزيدُ من قتامة الواقع وعبثية المصير، وقد لا ينجحُ من يكونُ مثقلاً بهذا الإرث الثقيل في إيجاد الحلول لأزماته الوجودية. لذا، فإن بلاد الثلج التي يأمل سعيد أن تصبح وطناً بديلاً وأرض أحلامه لا تنتهي فيها هواجسه، إذ يبدأُ هناك فصل آخر من المعاناة، وما ينمُّ عن شدّة التأزّم هو تحديد الرقم بدل اسم الشخصيات المهاجرة، ومن هنا ينفتحُ قوس السرد لمناقشة الأصالة والحضارة وما تعنيه الهوية والجذور.

 

يعلنُ سعيد بأنَّ الأمر لم يعد مهمّاً طالما يوجدُ أمل بأن يحظى بسرير دافئ في مكان آمن على حدّ قوله. وما يجدرُ ذكره في هذا السياق هو الوقائع الموشومة بالمفارقات، فحياة سعيد على نقيض مع معنى اسمه، إذ ليس له نصيب من السعادة كما أنَّ المدينة التي ولد فيها وسمّيت دار السلام لا تتوقّف فيها رحى الحرب. لذلك، تسرّب الخوفُ إلى تكوينه الشخصي، كما أنّ التاريخ أسبغه ألقاباً عديدة «ابن الرافدين، حفيد جلجامش، ابن خالة حمورابي»، وما أورثه كل ذلك سوى الخيبات والانكسارات عطفاً على ما سبق ذكره. يلمّحُ الراوي المتكلّم بالضمير الأول إلى حشد من الهاربين من ميليشيا دينية تنكّل بالمارقين والمنكوبين من الحروب الضارية والجوع والقهر، وبذلك يمرّرُ جرجس أسئلة ضمنية عن مفاهيم فكرية وثقافية، ومن الواضح أنَّ «النوم في حقل الكرز» تتقاطع على هذا المستوى مع ما يسمّى بروايات الأطروحة دون أن تخسر خصائصها الأدبية.

 

الأطروحة المضادة

ينهضُ التأمّل الروائي على التساؤل والافتراض حسب تعبير «ميلان كونديرا»، ضفر أزهر جرجيس نصّه الروائي بأسئلة إشكالية كما أسلفنا الإشارة، ويفترضُ رؤية مغايرة للتواصل مع الآخر. ومن المعلوم أنّ المغامرات العاطفية تمثّلُ في الرواية العربية غزواً رمزياً لبلاد الغرب، حيثُ يثأر الرجل بفحولته للشعوب المقهورة، وذلك يتجسّدُ بالوضوح في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، لكن الكاتب العراقي أزهر جرجيس في «النوم في حقل الكرز» خالف هذا النسق المهمّ في مرويات المنفى، إذ يصبحُ التواصل الجسدي بين بطله سعيد والأستاذة النرويجية تونا وجهاً للقاء حضاري، كما أنّ إعجاب العشيقة النرويجية بقصيدة أنشودة المطر يؤشّر إلى دور الثقافة في تضييق الشرخ القائم بين الهويات المختلفة. ومؤدى هذه المعطيات هو إمكانية تشكيل فكرة جديدة مطبوعة بنزعة انسانية للعلاقات العاطفية والإنفتاح الحضاري، ولا تأتي الإشارة إلى قصيدة السيّاب اعتباطاً بل يعبّرُ المؤلف من خلالها عن حنين شخصيته الروائية لإرثها الثقافي والحضاري والإعجاب الشديد بالبعد الجمالي في عالم الانسياب الإبداعي. ويشيرُ صاحب «صانع الحلوى» في تضاعيف عمله إلى الملحمة الجدارية لجواد والمرادُ من الدفع بهذه الرموز الثقافية إلى واجهة المتن الروائي هو بناء صورة مختلفة للمكان الطارد أبناءه، كأن أزهر جرجيس أراد بذلك ترميم المعلم الحضاري لبلده. ملمح آخر من الرواية يتناولُ ظاهرة التديّن المزيّف بعد انتهاء عهد الديكتاتورية، إذ يبدو أنَّ الواقع قد زاد بؤساً إثر موجة مظاهر التديّن السطحي. وبينما يذهبُ سعيد إلى بيت خاله سماحة السيد إبراهيم فإذا به تقع عيناه على ما هو مكتوب على جدار احدى المدارس «عمامة و7 طويات و4 محابس قبل السقوط بيوم زيتوني لابس»، ويتفاجأُ بتحوّل خاله من بعثي متشدّد إلى رجل دين يتبع الأحزاب الدينية. يشار إلى أنّ النفس الساخر يتصاعد في المقاطع التي ترصد مظاهر بغداد بعد 2003، وينقلُ الراوي ما يصاحب الأزمات الحياتية من الأجواء المشبّعة بالقتامة. والملفت في هذا المفصل من الرواية هو تخيّل الراوي لانهيار نصب الحرية، إذ يهمهُ إنقاذ الجندي، لأنَّ الجندي إذا سقط تتهاوى الأوطان. هنا ينسلُّ صوت المؤلف وراء قناع الراوي وعليه فإنَّ السردَ يتّخذُ منحى تقريرياً وتتواردُ في فضائه المفردات المؤشرة إلى البعد الجغرافي لمدينة بغداد التي كان يسودها الوئام بين مكوّناتها الاجتماعية قبل غزو التديّن السطحي لمناخها السياسي والثقافي على الرغم من مراوحة «بندول» السرد بين عدّة أمكنة لكن بغداد تكتسبُ موقعاً أساسياً كونها مُنطلقاً لحركة السرد.

 

حكاية الإطار

تتضايفُ رواية «النوم في حقل الكرز» عدّة قصصٍ بدءاً بحيثيات العلاقة التي تبدأُ من خلال الشبكة العنكبوتية بين سعيد والصحافية العراقية عبير حيثُ يتعرفُ على الأخيرة بعدما يتابع التقرير الذي نشرته عن مقبرة مُكتشفة مروراً بقصة سلام الذي يستقرُ به المقامُ في إستراليا وصولاً إلى قصة الحب التي تنشأُ بين سعيد وتونا ولا تكلّلُ إلّا بالحزن لذا يقولُ الراوي كن عراقياً لتكون حزيناً في معارضة لعبارة درويش كن عراقيا لتكون شاعراً. وما يصبحُ حكاية الإطار للرواية هو بحثُ سعيد عن أثر أبيه ولا تنتهي عودته إلى بلده إلّا بصورة يلتقطها لعظام ناصر مردان ومُضاعفة الحزن بعد مقتل عبير قبل أن يتحقق حلم اللقاء تتفاعلُ الرواية مع الأسطورة وذلك يتجلى في رغبة سعيد بدفنه إلى جانب قبر جاكوب تحت شجرة الكرز لتحل روحه في أغضانها يقومُ خطاب الرواية على فكرة فحواها أنَّ العراق لم يعد مكاناً مناسباً للحياة في زمن التناحر والإقتتال والتسطح.

theme::common.loader_icon