«إمرأة تلامس الخيال»: أبو راشد القلِق وجودياً
«إمرأة تلامس الخيال»: أبو راشد القلِق وجودياً
طوني عيسى
Saturday, 11-Jan-2020 06:05

«إستمتعي بالقصّة ولا تدعي التحليل يأخذكِ أبعد من السطور». هذه نصيحة العمّ طنوس للصحافية نغم في أحد المشاهد. لكنها تصلح لتكون نصيحة الكاتب، ميشال أبو راشد، لقرّاء روايته. وبديهي أن تختمر هذه الخلاصة في ذهن ميشال المثلث الفضاءات:

فهو بالفطرة روائي وعاشق للأدب والفن، لكن نطاق تخصُّصه الأكاديمي هو الفلسفة، فيما اختباراته اليومية تدور في مجال الصحافة.

وهكذا، في تحليقه الدائم بين الفضاء والآخر، هو اكتسب براعة في اجتياز المطبّات الهوائية واكتشافِ مدى التباعد أو التماسّ أو التداخل ما بين الواقع والافتراض... وما بين الحقيقة والخيال.

 

في مكان ما من الرواية يقول: «الصحافيون نصّبوا أنفسهم ملوك العارفين، يكتبون بما لا يعرفون، ويطلقون أحكاماً مبرمة تحفظها الصحف للتاريخ». وفي مكان آخر، «الفلاسفة بحثوا عن الحقيقة، ولكن … كل جوابٍ يكون مدخلاً لأكثر من سؤال... والخيبات تختبئ بين أسطر غالبية الكتّاب». ولذلك، «ربما التسليم بالأمور هو الحلّ»: «كفاكِ فلسفة، هي لا تزيد إلّا غمّاً إلى قلبِك. أوَتريدين أن ينتهي بك الحال مجنونة»...؟

 

في روايته «امرأة تلامس الخيال»، الصادرة عن «دار سائر المشرق»، يتعمّد أبو راشد أن يأخذ القارئ إلى الأمكنةِ التي تسحبه إليها الأحلام… ولا يستردُّه. يتركُ له أن يتلمّس درب العودة كيفما أراد، وإذا أراد. الأحلام التي «تنخر عمق الكيان، والرغبة الدفينة في أن نصير نحن تماماً مثلما نحلم أن نكون».

 

الرواية عبارة عن ثلاثِ قصص منفصلة في الزمان والمكان، لكنها متداخلة في الواقع: قصة نغم الصحافية الباحثة في عوالم الدكتور نصّار، المعالج النفسي الذي صار عجوزاً، وكانت له محاولات لإثبات نظريته أنّ الخيال حقيقي. وقصة نصّار نفسه واختباراته مع النساء في العيادة قبل خمسين عاماً. وقصة عبير، الشخصية المحورية في الرواية، والتي أعادتها نغم ونصّار إلى الحياة. وعبير تكافح للتخلّص من لعنة سيزيفية مصابة بها: كلما لمسَتْ حبيباً يختفي.

 

تجمع عبير آلام البشر وأفكارهم في شخصها. و«كل تنهيدةٍ منها تجمع تنهيدات نساء العالم ووجعهن… وجعاً يتدفق أنوثة… لا يمتّ إلى الألم بصلة... شوقاً من خيالٍ يتوقُ إلى التفجُّر عبر الجسد»، و«الجسدُ خيال… وتعبير دنيوي عن الرغبات». وفي الخيال «تَحرُّر يفوق المعقول». وعندما لا يكون شيء «إلا البياض… أشتهي القفز إلى أعماقي الهامدة، ولكن ترهبني صورة الدوائر التي يرسمها السقوط في ركود الأعماق. كنت أظن الركود سلاماً، ولكن السكون موت والقفز انتحار»…

 

الرواية يمسّها هَوَس الأقدام العارية للنساء، لوحاتِها المرصوفة بكثافة على جدران البيت. وخلعُ الحذاء الذي يصبح طقساً صوفياً، لا مناص منه للارتقاء إلى حيث الضباب «غمر عريَها ولم يظهر منها سوى قدمين عاريتين ناعمتين تسيران في غابة من خيال».

 

تلفح مناخات سوريالية رواية أبو راشد، وتشتدُّ تدريجاً لتبلغ الذروة في المشاهد الأخيرة. ترتقي عبير بالنشوة مع حبيبها لتتحرَّر وتشفى. وعندذاك… هل يُتاح لها اللمس؟ لمس الإله الذي أحيته من غياهب النسيان؟ هل يمكن لمس الآلهة، ولمس الخيال؟

 

تعيش بطلة أبو راشد أزمةً وجودية مع الزمان والمكان، أزمة أن تكون أو لا تكون. مأزقها هو الأسر الذي يكبّل روحها ويمرّغها في التراب الذي هو في الواقع «أجساد الناس الذين بقوا هنا». إنّه في العمق مأزق الحرّية. وعبير، في النهاية، هي كل النساء داخل الرواية وخارجها. وهنا تنضج تماماً رسالة أبو راشد. تدرك عبير عمق مأزقها الوجودي. فـ»كم تأخّرتُ على لمس نفسي»؟!

 

في طرق الحياة وتشعباتها تعبر جحافل الناس، يقول الكاتب، فيما «السلام على جنبات الطريق: صحافيون يتبعون خطى بعضهم بعضاً، كتّاب يواصلون النصّ عينه، حكماء يعيدون صوغ حكم مَن سبقهم، ومفكرون يواصلون درباً رسمها مفكرون»… وهكذا، يصبح المسكوت عنه هو الجوهر و«الخربشات أهم من الكتابات».

theme::common.loader_icon