«ألف منزل للحلم والرعب»..تكرار المكرّر
«ألف منزل للحلم والرعب»..تكرار المكرّر
نسرين بلوط
Saturday, 04-Jan-2020 06:08

الانفلات في الأحزان، حدَّ أن يمتلئ الكأس الذهني للمتلقّي بالأسى الذي يترعه بالنظريات السوداوية البحتة، هي عادةٌ للكاتب رحيم عتيقي يصبُّ فيها مأساة شعبٍ بكامله في نظراتٍ معيّنة ولفتات ومواقف تحوي الذلّ والظلم والتمادي في روايته «ألف منزل للحلم والرعب»، غير مفسح للقليل من الأمل أن ينشب معالمه في خريطة التعبير السردي لقصته.

هي رواية حازت على جائزة غونكور، تحتوي على أبعاد إنسانية ومحورية في حياة الإنسان، فالبطل هو شابٌّ مهمّشٌ يدعى فرهد، من أفغانستان، لم تصبح له قيمة إلّا بعد أن تعرَّض للتنكيل والملاحقة والتطاول على يد القوات العسكرية الجائرة، فقط لأنّه نسي أمر منع التجوال ليلاً حيث كان يلهو مع رفيقه، فتعرّض له الجنود ولاحقوه بابتزازٍ ملحقين به أضراراً جسدية مؤذية.

 

بعد الهرب الذي اقترفه في اللاوعي والوجل، والصمت المرتجف الذي يعقبه شيئ يشبه العدم والفراغ، يصحو فرهد ليجد نفسه في منزل امرأة فقيرة تدعى مهناز تعيش فيه مع طفلها اليتيم حيث فقدت زوجها، وأخيها العليل المشوّش ذهنيّاً بعد أن ذاق أصناف الويل والعذاب على يد الجنود لاشتباههم به.

 

تمنعه مهناز من العودة إلى منزله نظراً لحالته المزرية ولملاحقة الجنود له بعد أن هرب منهم، فتستبقيه عندها، وتعامله بودٍّ غير منقطع ولا نظير له. تستحضر ذاكرته تاريخ طفولته، حيث عاش مفتقراً لصخب الأم وحركتها لأنّ أمّه كانت تعيش في سكونٍ شاملٍ عجيب من غير أن تتكلم أو تشكو، وشاهداً على غدر أبيه الذي تركهم ورحل مع امرأة هفّ لها قلبه، ولم يرحم زوجته الواجمة في أحزانِ الغدرِ وضياع العشرة، أو يلقِ بالاً لأولاده الذين يتوقون لحياةٍ أسرية طبيعية.

 

الظلام الداخلي في المنزل والخارجي في أرض الوطن، يفرض اقتحامه على عالم فهرد فيجد نفسه وحيداً غارقاً في الحزن. ثمّ يتعلّق بمهناز بكلِّ حواسه، ويعرض عليها أن يهربا معاً ولكنها ترفض بحجّة أن الأمر مستحيل في الوقت الراهن، معلّلة النفس بأملٍ ما، ثم تأتي له بأمّه التي تضع له خطّة للهرب، حيث ترسل له رجلاً ليلفّه في سجادة حتى يتمكّن من وضعه داخل صندوق سيّارته بنيّة تهريبه خارج أفغانستان.

 

في رحلة الهروب يتعرّض لمواجهاتٍ مع نفسه، وتساؤلاتٍ منطقية تفرض رحالها على هجيع روحه المعلّقة بين الواقع والحلم، في هذيانٍ مرير يزفُّ له المرارة والألم. ثم تنتهي الرواية كما بدأت، في كابوسٍ يشبه الموت بتأرجحه الطوفاني القاتم.

 

الجمل في رواية رحيمي مبتورة كالعادة، فقد امتاز أسلوبه بها وتجرّعها رافضاً مبدأ التغيير، ربّما كانت نهجاً خاصّاً يؤمن به ويعتنقه، والشرود الذهني الداخلي لأبطاله يتواتر في سياق الرواية متجرّداً من التنبيه الضروري لمخيّلة المتلقّي في تصويب وتركيز الحيّز الهام من الحبكة الفنية، ولكن التكرار في المواقف والإنفعالات والإحتدام الفوري يتجاوز حدّ المعقول في رواياته، فتبدو متشابهة وكأنّها لو جمّعت كلّها، قد تصلح لأن تكون كلّها رواية واحدة مع أبطالٍ تتغيّر أسماؤهم ومعالم وجوههم، ولكنّ الصدى المتردّد في قعر النفوس يبقى واحداً، نفس الترتيب والتعريب في التوجّهات والأحاسيس والتخيّل والتمرّد والإنصياع والإنسياق للعواطف والثورة على النفس والغير.

 

عتيق رحيمي كاتبٌ نال جوائز وارتفع اسمه بمقدرته التخيّلية على إبتكار الأحداث وصياغة قصصه ضمن هيكلٍ فنيًّ معقولٍ يزخر بالجودة، ولكنّ تكرار نفسه قد يقلّص من حجم إبداعه ويلقي عليه ثوب التهلكة الإنتاجية الروتينية، وقد عرّف عتيق رحيمي عن نفسه من خلال أبطال قصصه حيث مزج الوجع بالمواقف الدراماتيكية، ليرتق ثوباً تفتّق من حجم الأحزان والضغط السياسي المجحف وعدم احترام حريّات الإنسان، وتمرير الخزي والعار تحت شعار العدل والنظام، في أوطانٍ عُزلت عنها الشمس، ورميت عليها غلالة العتمة الدائمة، فتشنّجت أوصالها وهلكت لا محال.

theme::common.loader_icon