حول إشكالية العلاقة بين الشعر والفلسفة
حول إشكالية العلاقة بين الشعر والفلسفة
كه يلان محمد
جريدة الجمهورية
Saturday, 21-Dec-2019 06:20

خصومة أفلاطون الشعراءَ وطردهم في جمهوريته باعتبارهم مُقلّدين وغير مبدعين، قد أثار الجدل حول موقف الفلاسفة من الشعر وأسباب الخلاف بين الإبداع الشعري والنشاط الفلسفي. ناهيك عن السؤال القائم بشأنِ إمكانية تحوّل الشعر إلى وعاء للأفكار وأداة للتعبير عن الأطروحات الفلسفية، لكن أهمَّ ما يجب التساؤل بشأنه، هل يُمثّل ما قاله أفلاطون عن الشعراء رؤية جميع الفلاسفة؟ أو أن ثمّة من خالف صاحب «الجمهورية» في رأيه وأعاد الاعتبار الى الشعر بوصفه عاملاً لاكتشاف البعد الجمالي في الوجود.

طبعاً، ستصبح اللغة مُتيبّسة ومتعثّرة في التعبير عن دفء المشاعر الإنسانية إذا غاب الشعر، ولم يكن تذوّق جمالياته جزءاً من الثقافة الحياتية. وهذا يعني أنَّ الشعر يرفدُ مسار تطوّر مفردات اللغة شأن أيّ فنون إبداعية أخرى، كما يغذّي الذائقة الجمالية، وبذلك لن تكون وظيفة اللغة أداتية مجرّدة فحسب، بل تُضاف إليها أغراض فنية وجمالية. غير أنَّ كل ذلك قد لا يشفع للشعر بأن يتجاور مع الفلسفة برأي عدد من المهتمين بهذا الموضوع، كون الشعر انعكاساً للعاطفة والمشاعر التي تغور في الأعماق، بينما الفلسفة عبارة عن التأمل العقلي والنظرة الشمولية للحياة والكون. زدْ إلى ذلك، فإنَّ الفلسفة تتّكئ على الحجج والبراهين فيما يعتمدُ الشعر على إثارة المشاعر والانفعالات، لكن رغم وجود هذا الاختلاف يوجدُ من يعتقدُ بضرورة البحث عن المشتركات الكثيرة بين الفلسفة والشعر. وما يبدو في الظاهر شرخاً بين الاهتمام الفلسفي والإبداع الشعري، ليس إلّا أمراً مصطنعاً لأنَّ كثيراً من الفلاسفة آثروا صياغة أفكارهم في الإطار الشعري. وانطلاقاً من ذلك، تتناولُ الباحثة الجزائرية حبيبة محمدي في كتابها «نيتشه شهوة الحكمة، جنون الشعر» الصادر من الهيئة المصرية العامة للكتاب نماذجَ من الفلاسفة الذين كان التعبير الشعري ركناً من مشروعهم المعرفي.

 

التواصل

تناقش حبيبة محمدي الإشكالية بطريقة منهجية واضحة، وتدعمُ فكرتها عن العلاقة التواصلية بين الشعر والفلسفة بآراء الآخرين، وذلك لكي تحتفظَ الدراسةُ بخطّها الموضوعي. كما تتوقف عند إرث الفلسفة الإغريقية، وتستندُ إلى فكرة الشعراء المحدّثين، منهم إليوت الذي يرى بأنَّ الشعر كلّه يوهمك بأنَّه يتضمّن نظرة إلى الحياة، لذا عندما نتعامل مع هوميرس وفرجيل وشكسبير ودانتي نجنحُ إلى الاعتقاد بأننا نتابع شيئاً يمكن التعبير عنه فكريّاً. ما يعني أنَّ الشعر غير مُنفصل عن الاشتغال الفلسفي والفكري، ويتقاطعُ موقف هايدغر مع نظرة إليوت عن طبيعة العلاقة بين الشعر والفلسفة، حيث يعتبر الفيلسوف الألماني بأنَّ كلّ تفكير تأمّلي يكون شعراً، كما تحمل النصوص الشعرية بدورها بذور التفكير الفلسفي. كما أن كولنجوود يقدّمُ رأيه موضحاً بأنَّ تعاطينا مع الفلسفة يجب أن يكون بمذاق شعري، لأنَّ استخدام الفيلسوف للغة لا يختلفُ عن تعامل الشاعر مع العبارات، فكلاهما يرقى باللغة إلى مستوى مغاير عن طابعها الوظيفي. وينحتُ كل من الفيلسوف والشاعر أشكالاً وأساليبَ تعبيريةً جديدةً، فبالتالي هناك تداخل بين الأدب والفلسفة، ولكن إليه يذهب نفر من المتابعين إلى إنكار إمكانية التداخل بين الحقلين، وأنَّ ما يُسمّى الأدب الفلسفي يسبقُ فيه الشقّ الأدبي المتمثّل في الشكل والترتيب النوازع الفلسفية. ملمح آخر من الدراسة هو رصد مستويات العلاقة بين الشعر والفلسفة من حيث الموضوع، باعتبار أن الموضوعات الوجودية هي محور الفلسفة والشعر. وما يهمّ في هذا السياق هو رأي هيغل الذي يطالب بألّا تقتصر الموضوعات الشعرية على الظواهر الطبيعية ولا على الجانب الشكلي في الإنسان، إنما ينبغي أن تتركّز على الجانب الروحي فيه، أمّا من حيث الأدوات فإنَّ الشاعر يُعّد صائغ الكلمات على حدّ تعبير «أدمان». وبرأي جادامير، فإن اللغة هي الوسيط بين الشعر والفلسفة، فالشعر هو اللغة بأسمى صورها وتخفق اللغة حينما لا تحقّق صياغة تمسّ صميم الفكر.

 

إضافة إلى ذلك، تدرسُ الباحثة مفهوم الحقيقة في الشعر والفلسفة، لافتةً إلى معايير الصدق في النص الشعري والفلسفي، ويكونُ صدق الشاعر مرتبطاً بمقدار تفاعله وحرارته في التعبير عن الموضوع الذي يتناوله، غير أنَّ مقياس الصدق في الفلسفة يكمنُ في التصوير لما هو في الواقع. وإذا تحولنا إلى الغاية من الشعر والفلسفة، نلاحظ بأنَّ الفجوة تضيق بين النشاطين الفلسفي والإبداعي، إذ يرى هايدغر بأنَّ اللغة هي جسر التواصل بين الفلسفة والشعر وهي الأداة لتحقيق الغاية المنشودة لدى الفيلسوف والشاعر.

 

فيلسوف المطرقة

بعد تقديم آراء نخبة من الفلاسفة وإيراد تجربة الفلاسفة الذين إتخذوا من الشعر قالباً لأفكارهم، مثل هيراقلطس وبارميندس وأنباذوقلس، وما قاله كل من أفلاطون وأرسطو عن أنواع الشعر وما يفرّق بين الإثنين حول وظيفة ودور الشعر. تنصرف حبيبة محمدي إلى ما يشكّل صميم الدراسة، وهو علاقة نيتشه بالشعر. قبل ذلك، تسردُ جانباً من حياة مؤلف «غسق الأوثان» ونشأته وعمله الأكاديمي ومشاركته في الحرب ضد فرنسا ومعاناته المضنية مع المرض، كما تلتفتُ إلى العصر الذي عاش فيه نيتشه إذ كان الصراع محتدماً على المستوى الفكري بين التيار الوضعي والرومانسي، وما يشدُّ الإنتباه في شخصية نيتشه هو التطابق بين حياته وفكره. وحسبما أوردت حبيبة محمدي، فإنَّ حياة نيتشه فكرياً تتوزّع بين 3 مراحل رومانتيكية فنية، وصفية نقدية، وصوفية. وتفصل الباحثة في تناول أركان فلسفة نيتشه إرادة القوة والإنسان الأعلى والعود الأبدي، ومن ثمَّ أبانت البعد الجمالي في نصوص نيتشه وإهتمامه بالموسيقى وصداقته مع فاغنر وإنقلاب العلاقة بينهما إلى الخصومة، وما يجدر بالذكر هو إعتقاد نيتشه بأن الشعر هو قمة النثر. طبعاً، الجانب المؤثّر في حياة نيتشه هو تغرّبه عن عصره شأن أي عبقري يسبق زمنه، فكان الإنسان هو الكائن الذي قُدّر عليه أن يتفوّق على نفسه بالإستمرار، وهذا المبدأ النيتشوي هو أساس الفلسفة الوجودية. وأكثر من تأثر بمؤلف «العلم المرح» هو ألبير كامو، فالأخير يقول أيضاً من الصعب أن يكون المرءُ إنساناً. يُذكر أن هيراقليطس أبرز من أعجب به نيتشه وكان يحاكي أسلوبه في كتابة الشذرات.

theme::common.loader_icon