هل انتهى دور الناقد؟
هل انتهى دور الناقد؟
كه يلان محمد
جريدة الجمهورية
Monday, 16-Dec-2019 06:49
سيكون الجمود والتخشّب نصيب تلك المفاهيم الفكرية والأدبية التي لا تقبل بالمراجعة ويرفض حرّاسها طرح الأسئلة بشأنها، لأنّ الأفكار تستمدّ قوتها من سيرورة الحياة وإنصاتها لحركة الواقع.

إذاً، فإنَّ الفكر لا يقع خارج العالم، وما تتم معاينته في الواقع يؤكّدُ ضرورة فتح حلقة النقاش حول عدة مفاهيم في ضوء ما يمرُّ به المُناخ الثقافي من التحوّلات، نتيجة إحداثيات تكنولوجية وثورة رقمية حيث أبانت التطورات الأخيرة أنّ وسائل التواصل الإجتماعي ليست أفيون الجيل الجديد كما رأى ذلك المنتسبون إلى الحرس القديم، إذ تحوّلت المنصات الرقمية إلى أدوات تمكّنُ المُهمّشين للتعبير عن هموهم.

وبالتالي، نشأ خطاب جديد مقابل ما سمّي بالخطاب النخبوي أكثر من ذلك. فإنَّ النخبة تحاكي العامة في سلوكياتها عليه، فلا استغراب في انحسار دور النخبة الفكرية وغياب تأثير المثقفين في بعض المواقف، ما نقله الكاتب اللبناني عبده وازن على لسان المثقّفين الذين اعترفوا بأنّ نهر المتظاهرين قد ابتلعهم عندما نزلوا إلى ميادين المدن وساحاتها.

ويكشفُ عن بصيرة الجمهور في قراءتهم للواقع، إذ يسبق هؤلاء بعفويتهم المنظّرين في إدراك مُتطلبات المرحلة وعمق الأزمة بعيداً عن وحل الأوهام والشعارات. ويعتقد الفيلسوف اللبناني علي حرب بأنَّ نشر المعرفة انتقلت من الصحيفة والكتاب والجامعة بوصفها مناطق نفوذ المثقفين والنخبة إلى الإعلام طبعاً، فمع الإعلام البديل قد خسر المثقف مزيداً من الأدوات المكونة لسلطته المعنوية.

والحال هذه فإنّ ما يصنعُ الرأي العام هو الصور والمنشورات المتداولة في البيئات الإفتراضية التي تعبرُ عن بلاغة البسطاء، على حد قول شوقي بزيغ، وليس المثقف. ما ذكرَ آنفاً عن وضع المثقف وتعويض دوره الفعّال بحضوره الشكلي، قد ينسحبُ أيضاً على وظيفة الناقد الأدبي، بحيث يبدو الناقد أقل فاعلية من القارئ العادي. لذا، يُعقد الرهانُ على الأخير وما يقوله عن النصوص الأدبية.

عصر القارئ

المرادُ بالقارئ غير من حدّد المنهج البنيوي مواصفاته، حيثُ أعلن موت المؤلف وأصبح معنى النص متوقفاً على وجود القارئ الذي يملأ فجوات الأثر الأدبي، إنما القارئ الذي يعوّلُ عليه المؤلف لخروج منجزه الأدبي من العتمة، وهذا ما ينبيءُ بأنّ ثمة من يزاحم الناقد في وظيفته كما لا ينفردُ طرفُ معيّن بإعطاء كلمة المرور للنصوص الأدبية.

وما ساهم في تشكيل «الجمهور القرّاء» هو انفتاح وسائل التواصل الإجتماعي بوجه الجميع، بعكس ما هو معروف عن الصحف والمجلات التي تتميز بطابعها النخبوي، وتتحكم بها الإعتبارات الأيدولوجية والفكرية.

وبالتالي، تنكفئ على فئة من الكتاب دون غيرهم قد تجمع بين هؤلاء خلفية فكرية أو انتماء أيدولوجي، بينما تتجاور في الفضاءات الرقمية الخطابات المتنوعة وذلك ما يمنحها الأفضلية. قد يحتجّ صوت على عبارة «الجمهور القراء»، معتبراً بأنّ الجمهور لن يكون سوى عامل في صناعة ظواهر أدبية تنتهي صلاحيتها بسرعة.

نعم انّ هذا الرأي لا يجانب الصواب، غير أنّ من طبيعة هذا العصر هو تلاشي مفهوم الهيمنة المطلقة وانسحاب الرموز، سواء أكانت أدبية أو غير أدبية لتحلّ مكانها أسماء جديدة.

ومن نافلة القول الإشارة إلى الزخم الذي صاحَب ظهور كل من دان براون وباولو كويلو وبولا هوكينز، لدرجة تحوّل مؤلف «الخيميائي» إلى مبشّر بنظر مُتابعيه. غير أنّ ذلك الفوران ما لبث أن تراجع لتعبقه موجة جديدة، إذ بدأ الاهتمام بالكاتب البرتغالي أفونسو كروش، وصياغته المختلفة في الكتابة، ولعبته في تَشظّي الحبكة ومُقاربته للأسئلة الماهوية بالبساطة والشفافية.

وإذا انصرفنا إلى تشكيل الذائقة واختيارات القراء، يتم التأكّد مرة أخرى من محدودية دور الناقد، إذ ينشر الروائيون على صفحاتهم ما يقوله القارئ العادي عن إصداراتهم الجديدة، إضافة إلى أنّ المقتبسات المتداولة قد تكون دافعاً لمتابعة العمل الروائي بأكمله، ما يعني وجود العناصر الجديدة لتشيكل الذائقة والوعي بالأثر الأدبي. وبالإستناد إلى ما سلف ذكره، يجوز إطلاق عبارة عصر القارئ على هذه المرحلة والسؤال عن مصير الناقد أيضاً.

علبة الناقد

لا يستقيم الخطاب المعرفي من دون وجود أدوات تدعمه وتوفّر له فرصة التفاعل مع المعطيات الجديدة، بما أنَّ النقد عمل معرفي قبل كل شيء يتطلّبُ التجدّد في الأدوات والرؤية حتى لا يحلّ به الركود ولا ينتهي إلى الجمود. غير أنّ الملاحظ في حال النقد مؤخراً فراغ علبته من الأدوات التي تمكن على إجراء قراءات عميقة للنص، واستنكاه ما يضمره من مؤشرات دالّة على التحول على الأصعدة كافة، إذ قطع بعض الروائيين أشواطاً في تناول ما يسمّى بالتابوهات، كما نجحوا في إيجاد لغة روائية مُتفاعلة مع واقع العصر ومُتطلباته العلمية، فيما تراوح معالجات النقاد في تدوير بعض المُصطلحات والعبارات التي لا تخدمُ العمل الأدبي ولا ذائقة القارئ.

لذلك، لا بد للناقد أن يقرّ بضرورة مراجعة ما تحتوى عليه علبته، لأنّ عدداً من الروائيين قد غامروا بارتياد مستوى مختلف في اختيار المواضيع والاشكاليات العلمية، وهذا ما يفرض خروج النقاد من دائرة الاختصاص ومتابعة شتى الحقول المعرفية، لأنّ مقاربة نص يتناول مشكلة البيئة بأدوات تقليدية لا تضيف شيئاً للموضوع ولا تعدُ مكسباً لعملية النقد، كما أنّ الروائي قد أدرك لغة العصر والتكوين العقلي الجديد، فمن المفروض أيضاً أن لا يكتفي الناقد بدوره المحدود خارج الحلبة.

واللافت في سلسلة الحوارات التي أجريت مع عدد من الروائيين، ونشرت «الجمهورية» حلقات منها، هو تأكيد المشاركين على تراجع مستوى النقد، مُبدين استغرابهم من شح المصادر النقدية بينما نعاصر ظاهرة تضخّم الرواية. كما أنّ الإخوانية، على حد تعبير خضير فليح الزيدي، قد فرّغت العملية من أغراضها المعرفية، وهنا يكمن سر فشل النقاد في اكتشاف المواهب والنصوص القيّمة.

أهم ما يجب الإشارة إليه ونحن بصدد عملية النقد، هو غياب المقارنات بين النصوص المترجمة وما يكتب بالعربية، وانعكاس ما ينقلُ من اللغات الأجنبية في أجواء واتجاهات الرواية العربية.

طبعاً انّ رصد هذه التمثّلات هو ملمحُ مهم في الإشتغالات النقدية. أخيراً إنّ ما يجب الإعتراف به أنّ دور القارئ لم يتوقف عند تشكيل الذائقة والترويج للعمل الأدبي، إنما يتحكّم بإيقاع حركة الكتابات الإبداعية، فإنّ نسبة التفاعل ومستوى التواصل يدفعان بالمبدع للشروع بكتابة عمل جديد. 

theme::common.loader_icon