«المرأة ذات الثوب الأسود».. تقطّعٌ كئيب للحدث
«المرأة ذات الثوب الأسود».. تقطّعٌ كئيب للحدث
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Thursday, 05-Dec-2019 06:46
في طرحٍ مسرحيٍّ للسرد، يبني الروائي حنّا مينة قصصه في كتابٍ يحمل اسم «المرأة ذات الثوب الأسود»، على موجٍ متقطّع الأنفاس، يراود الرذاذ عن بياضه فيغرق معه في لججٍ زرقاء بتهوّر كئيب وسطحي.

في القصة الأولى التي تحمل عنوان الكتاب، حكاية كاتب لبناني معروف يروّح عن نفسه في رحلة الى مصر تتخلّلها أحداثٌ مرّت في ذهنه وسمّرت ذاكرته أمام نقاطٍ سوداء لا كاشف لها إلّا الغرابة، حيث يصادف امرأتين منحرفتين بالشواذ الجنسي فيصاب بالخيبة والانبهار السلبي، ثم يسلكُ ما تبقّى من رحلته في قطارٍ ذاهبٍ من الاقصر إلى أسوان، ويلتقي بامرأة ترتدي ثوباً أسود، تحكي له حكايتها التي ترفل بالعار المخزي دون أيّ شعورٍ بالذنب، متحدّية حسّه البديهي في كشف الأسرار الغامضة في دخائل البشر فيعجز عن الحدس بأحداث قصتها، وتفاجئه بأنّها متزوجة مرّات عدّة، فقد نزحت من الفقر الفاحش الى الغنى الباهظ، حيث تزوّجت كهلاً في سنّ جدها وورثته، ثم تزوّجت رجلاً مارس عليها لعبة الضرب في الجنس، وبعده رجلاً مارست هي بدورها عليه هذا النوع من القمع الغريب. وانتهت لعبتها بزواجها من عجوزٍ ثريّ يماثل من سبقوه من الغرابة. تقيم المرأة علاقة جسدية عابرة مع الكاتب في القطار، ليخرجا منه حبيبين، ومن ثمّ يقصدان الفندق في أسوان سويّاً متعاهدين على الوفاء، ولكنّ الكاتب يغيّر رأيه في اللحظة الأخيرة ويهرب من الفندق عائداً إلى بلاده خشية التعلّق بالمرأة والانجذاب البديهي إليها، فيصبح فريسة كغيره لا حول له ولا ناقة.

إحتباس الحلق الحدسي في القصة واضحٌ ومتملّق، ولا يخدع القارئ، وعنصر الإبداع يفتقر الى الكثير من المهارات الفطرية لكاتبٍ متمرّس مثل حنّا مينة. في النص عقدة تركيبية هرمية متصاعدة ثمّ منحدرة حتى تكاد تسبح في رمالٍ متحرّكة من اللا ثبات.

شفتان بخيلتان
في القصة الثانية «شفتان بخيلتان»، تهوّرٌ كبير في نسج الحبكة، حيث يتكلم عن كاتبٍ عربي محاضرٍ شهير يلقي محاضراته في أنحاء البلاد العربية ويعود إلى منفاه في فرنسا لأنّه مطلوبٌ في بلاده في جرم التوعية الثقافية، وقد قصد الأردن وألغيت له محاضرة مهمّة في الجامعة خوفاً من صدى كلماته المؤثرة، ولكنه عوّضها في لقاءاتٍ أخرى، ويلتقي بفتاة تخوض معه مغامرة عاطفية.

الرجل الذي يدبّ إلى فراشه
في القصة الثالثة «الرجل الذي يدبّ إلى فراشه»، تماسكٌ كثيف في العناصر البنائية الفنية للقصة، حيث يتحدّث عن عام 1936، وقصة حمّالٍ بسيط يدعى يوسف الديب في الستين من عمره، يعاني من فتقٍ في الحالب الأيمن، فيلجأ الى معلمه للمساعدة حتى يشتري له حماراً يحمّل عليه البضائع للزبائن ويخفّف الأحمال عن جسده، فيسخر منه معلّمه بعد أن يعطيه محاضرة قاتلة في الدين والدنيا والمحاكم، قائلاً أنّه لا يحتاج إلى حمار وهو، أي يوسف الديب، حماره في العمل. منتهى الاستبداد الإقطاعي بالبشر، والاقتصاص الدونيّ بينهم.

يسرد الحمّال حزيناً على مسمع زوجته ما جرى له، فتشير عليه أن يقصد المحامي جارهم الذي يدافع عن حقّ العامل والقانون، فيسخر منها قائلاً أن لا قانون عادلاً يطبّق في الأرض بين الأقوياء والضعفاء، وقد أتى الكاتب على إسقاطٍ مهم بين ما جرى ويجري في أيّامنا من استغفالٍ لحقوق البشر لحقّ الأشداء الظالمين. يعود يوسف الديب إلى فراشه زاحفاً وهو يدبّ على أربع كعادته، وينام فاقداً رشده بعد أن أحاله معلمه والمجتمع والظلم إلى حمار حقيقي.

معتاد على رؤية الدّم
في الجزء الأخير من المجموعة القصصية تجاربٌ كتبها الكاتب في بداياته الأدبية، وهو يستعرضها من باب الحياء مؤكّداً أنّه لم يغيّر منها شيئاً، ولكن بعد التمحّص في قراءتها، تبدو من أجمل ما كتب حنّا مينة، وكأنّ بداياته تتفوّق على شهرته الحالية، وتفوقها وصفاً إبداعيّاً للمحيط السردي.

فعلى سبيل المثال، في قصة «معتاد على رؤية الدّم»، وصفٌ مبهر للمكان، وبريقٌ ملفتٌ للغة، هو عام 1946، في حيّ القلعة باللاذقية، وحلاق للرجال يستقبل الوافدين والمتكلمين في السياسة، من شتّى الطبقات والأنواع والصفات، ويلفت نظره «أبو صبحي» وهو رجلٌ بسيط لا تظهر علامات الشدّة على محيّاه، ويطلب من العامل الصبي أن يحلق له ذقنه رغم قلّة تمرّسه، ويغادر الدكان. وبعد أن دبّت الثورة واقتحم الرجال الثكنة العسكرية الفرنسية ببنادقهم وحجارتهم وأدواتهم البسيطة محرزين النصر، رأى الحلاق أبا صبحي ثانية قادماً بيدٍ ملفوفة بضمادة بيضاء غير آبهٍ بالنصر الكبير الذي حقّقه مدافعاً عن بلاده، لأنّ الشهامة سمة البسطاء.

حنّا مينة يعتمد على جاذبية الوصف في بناء قصصه ولكنّه يغفل عن كثير من العناصر المبدّلة لمجرى الحدث.

theme::common.loader_icon