ابراهيم الكوني وتصارُع الخير والشر مع قوى الصحراء
ابراهيم الكوني وتصارُع الخير والشر مع قوى الصحراء
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Monday, 18-Nov-2019 07:14
يطلّ الكوني من خلال روايته «البحث عن المكان الضائع» على الأسلوب الإنطباعي الوصفي الدقيق، ويقتحمُ أسيار العالم الأسطوري في مكانه المفضّل «الصحراء»، وهو الذي اشتهر بلقب الكاتب الصحراوي، ويحدثُ انتكاسة نوعيّة للقارئ من خلال الإنتقال به من حدثٍ مؤلم، إلى حدثٍ أشدّ إيلاماً وإيثاراً للعجب.

يسلك مثل فيكتور هوغو في روايته «عمال البحر»، عالماً مزدوجاً من الواقعية والخيال، من الفلسفة واللامنطق، ومن الخير والشر، مغربلاً اللغة النوعية التي يستخدمها في السرد بأسلوبٍ مميّزٍ قد يفوق الوصف توصيفاً.

ناموس الصحراء

في ناموس الصحراء الذي ينعمُ بإيديولوجيا الروحانيات المتخفيّة تحت أذرع النخيل وترانيم الظلام الحالك، حيث تتصاعدُ الأنفاسُ التي تنعمُ بوتيرةٍ ضمّت أفراد الواحة بوقارٍ مبرم، يسري خبرٌ غريب عن وفود زائرٍ غريبٍ إليها، يأبى الإنضمام إلى قافلتهم المستقرّة في هذا المكان، ويأبى كلّ أنواع الضيافة التي اعتادها الجميعُ ترحيباً بالضيوف.

وقد أطلق الكوني لقب الداهية على هذا الضيف الغريب الأطوار، وكأنّه يرمزُ به إلى إبليس الذي تقمّص قناع الدهاء ومضى يُمعنُ تزويراً وتحريفاً وتحفيزاً لحقائق الكون وخفايا الأمور، حتى تبرّأ منه الجميع رغم حاجتهم إليه في حياتهم المليئة بالتناقضات والتحايلات المتنوّعة، ففي منطقه أنّ الخير والشرّ متوازيان في القوى، معتدلان في ميزان الكون.

العقاب

وقد كان لماضي الداهية الأثر السلبي في تكوين شخصيته وتبلورها المتصاعد، إذ تزوج إحدى فتيات الجن وبعد حملها وإنجابها منه قتلت طفلهما بيديها حتى تجعل قلبه يتشظّى حرقة على وليده، عقاباً له على اصطحابها معه للترحال في الصحراء دون أن يثبت في مكانٍ يكون لهما سكناً وأماناً وموطناً.

ثمّ تعرّض للخيانة من أحد التجار الذي أرجع له دينه على شكل ناقةٍ مستعرة بالغضب والشراسة تكادُ تسحقه بأقدامها بعد أن بثًّ فيها السحر فأنجدته أتان، وعاد لينتقم من التاجر الآثم ويسرق قاموس طلاسمه التي تعجّ بالسحر والأذى.

لا ينفع تقرّبُ الأبله منه، الذي قدم من طرف أهل الواحة للإستفسار عن إرادته بالإستقرار في واحتهم، ولا تدخّل الحكيم الذي يتكلّم بحكمة أهل الصحارى، ولا حتى العرّاف الذي يحاولُ أن يستشفّ من غلالة روحه وهج سرّه، ولا حتى شيخ القبيلة الذي جرّب إقناعه بالإنضمام إليهم.

وهو يرمي ملحاً أسود في النهر، يجلبُ الشرَّ ويوقع النكبة في أنحاء الواحة، أشبه بالسحر الأسود، فتجهض جميع نساء الواحة، ويشي به الأبله فيتّهمه بخفّة العقل وبافتقاد الدليل الدامغ على ذنبه، فيحارُ معه الجميع بعد أن ينفي عنه التهمة بدهاء ومكر، وينتصبُ بؤسهم ذليلاً منكّس الرأس أمام جبروته، ثمّ يلجأ إليه الجميع لفكّ السحر عن النساء، فيعاشرهن، ويحملن منه، ويوقعهن في شرك هواه.

الإثم

تأتي النهاية كما بدأت بالإثم، هو يدّعي أنّه يريد خلاصهم مستنداً لصفات النبيّ الحكيم، ليحرّم على الجميع التجارة والثرثرة والإستفادة، محتكماً لحلول الإرتفاع بالروح نحو الأعلى.

الرواية بتفاصيلها تؤرقها أهداب الصحراء التي تضجّ بالأساطير والبدع الغريبة، يقاربُ الكوني بينها وبين الحياة الإنسانية للبشر، حيث يتصارع الخير والشر في دوّامة أزليّة تدورُ في مثلّثٍ إستوائيٍّ مكتّف الذراعين في ظلال غرور وكبرياء الإنسان، حيث يخالُ بأنّه عثر على أسرار الكون، وهو محض رحّالٍ تنقصه المثالية.

الكوني كاتبُ الصحراء لا يتورّع عن تجسيد الشر في أبهى حلله كما في أشنع أشكاله، يسنُّ الناموس سيفاً قاطعاً كالكتاب المقدّس لا حدّ لحكمته، ينذر المنحرفين عن تعاليمه، ويدسُّ قلمه في الاستثناءات الحادّة التي تحكم بعض البشر، عاكفاً على التمسّك بالخير كعنصرٍ أخير لإنقاذ الإنسان. 

theme::common.loader_icon