«عمارة يعقوبيان» تعريف للقمع السياسي
«عمارة يعقوبيان» تعريف للقمع السياسي
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Tuesday, 12-Nov-2019 06:59
علاء الأسواني الذي دخل السينما من أوسع أبوابها من خلال رواياته التي يتجمهرُ فيها أبطالها في إطارٍ مسرحيّ متهكّم على جرائر الواقع، ومهالك أقطابه السياسية التي هَيمنت كالطلاسم الملعونة على جباهِ المواطنين، لتحيك مؤامرة التهلكة الحتمية وتقود الشبان إلى دروب مسدودة من الكره والنقمة والحيرة والجوع والكفر المتستّر في أذيال الدين.

في رواية «عمارة يعقوبيان»، يقدّمُ شخصيات متفاوتة المراكز والمواقع، تتهافتُ لتبرز أنفسها بشكل هستيري، فالغضب هو العنصر المسيطر في السرد، والثورة اللامرئيّة تحكي عن نفسها بأسلوبٍ دراميّ ثائر، والنقدُ لا يجدُ منفذاً للتفرّد بشخصية بعينها، لأنّ الشمول في الصرخة يَعمّ الجميع.

تحصر مجتمع مصر

المكان هو عمارة يعقوبيان حيث تدور الأحداث متعاقبة محتدمة كأنّها تحصر مجتمع مصر بين طوابقها، بالإضافة إلى العائلات الفقيرة التي تقيم فوق سطح العمارة في شقق صغيرة معلّبة، تصخب بالفقر المدقع.

فنرى طه ابن بوّاب العمارة، الذي يكافح في سبيل تحسين وضعه الاجتماعي والمعيشي، وتأمين مستقبلٍ لائق ينشله من بؤرة الفقر والطين، فيتفوّق في دراسته رغم استهجان سكّان المبنى الذين ينظرون إليه بدونيّة واحتقار، ويسعى لأن يصبح ضابطاً في الشرطة، ويزف الخبر لحبيبته بثينة التي تقيم فوق سطح العمارة وتعمل في محلٍّ للملابس.

يجتاز الامتحان بخفّة ويسرٍ وبراعة، ولكنّ سؤال الضابط المسؤول يغيّر مصيره في اللحظة الأخيرة ويجلب له الرفض بعد أن ينهره سائلاً إيّاه: «هل أنت حقاً ابن حارس عمارة»؟.

يصفعه الرفض والنبذ فيطرد من أمام اللجنة، جارّاً خيبته وذهوله، لأنّ مستواه الاجتماعي المتدنّي لا يؤهّله للانضمام إلى سلك الضباط. هي خيبة دامية تدفعه عند دخوله للجامعة إلى الانضمام للجماعة الإسلامية التي يجد فيها متنفّساً لأحقاده وأفكاره الرافضة للتهميش المميت، فينتهي به المطاف بعد أن يُعتقل ويُغتصب بسبب اشتراكه في المظاهرات إلى تنفيذ عمليات إرهابيّة إنتقاماً من نفسه ومجتمعه وحكّامه الظالمين، ويقتل في النهاية هو الشاب الميت الحي ضحية الفقر والسياسة والوجع.

أمّا حبيبته بثينة التي تضحّي بشرفها خلال عملها في محلٍّ للملابس لتنفق على أمها وإخوتها بعد موت أبيها المفاجئ، وتتوق للسفر حتى تتخلّص من تبعيتها لوطنٍ لا تجدُ فيه ما يسدُّ رمق القليل من أحلامها، فتنتقل للعمل إلى مكتب زكي بك في نفس العمارة، فتغرم به رغم كبر سنّه وتتفهّم مشاكله مع شقيقته دولت التي تحاول اغتصاب حقوقه في إرث والده وإقامة الحجر عليه، وترشي بذلك رجالاً من الشرطة بالأموال، وتنتتهي قصتها معه نهاية سعيدة بارتباطها به.

الترفّع الأعمى

ومن سكان العمارة نجد الأستاذ حاتم، وهو رئيس تحرير جريدة معروفة في القاهرة، يهمّشه المجتمع لكونه مثليّ الجنس، وقد تكوّر على نفسه منذ طفولته بتوحّدٍ غير منظور، بسبب انهماك والده الدكتور في القانون المدني في عمله، وانغماس أمه الفرنسية الجنسية في ملذّاتها الجسدية مع رجال آخرين، وقد عاشت في مصر باحتكار الترفّع الأعمى اعتزازاً منها بانتمائها إلى العالم الأول وتنازلها بزواجها من رجل مصري، بحسب اعتقادها، في مجتمع متخلّف لا يرتقي لمستواها، مع أنّها كانت تعمل نادلة في مقهى ليلي قبل اقترانها بوالده.

وكانت أول تجربة له مع إدريس خادمه الخاص، الذي تحرّش به فلبّى نداءه بقلب متعطّش للحنان والعطف، وسار في درب الشذوذ غير نادم أو آبهٍ بما سيؤول إليه مصيره في النهاية. وقد بحث طويلاً عن العشق الحقيقي المستقر، فوجده في شخص الجندي الصعيدي «عبد ربه» الذي دفعه المبلغ الشحيح الذي يتقاضاه من عمله المرهق إلى الاستجابه له، فهجر زوجته وطفله الرضيع بعد أن استأجر له حاتم شقة فوق سطح عمارة يعقوبيان بالإضافة إلى كشكٍ صغير للعمل فيه، ولكنه يعلن تمرّده على تلك العلاقة الآثمة الكافرة بعد أن يموت رضيعه من الحمى فيعتبره عقاباً من الله على فجوره، وتنتهي قصته مع حاتم نهاية مأساوية بعد أن يجبره الأخير على عدم هجرانه فينهال عليه ضرباً حتى الموت.

التستّر بالدين

وهناك الحاج عزام تاجر المخدرات الذي يستتر بالدين والخلق السليم، لستر فضائحه، يتقدّم لمجلس الشعب وينجح في الانتخابات بسبب رشوته للرجل المسؤول عن التعيين والعزل، يتزوج زوجة ثانية في الخفاء عن زوجته الأولى، فتحمل منه ويجهضها عنوة باسم نفوذه الواسع، ويطلّقها شرّ طلقة، ونجده هو الآخر محكوماً من «الرجل الكبير» وهو إشارة إلى الرئيس، الذي يطالب بحصته من كلّ عملياته التجارية في الخارج حتى لا يُفضح أمره ويُطرد من مجلس الشعب.

بالإضافة إلى شخصياتٍ أخرى تؤدي أدوارها في الرواية، يتنقل الأسواني بخفّةٍ من فصلٍ إلى آخر في مجريات الأحداث، فيلعبُ دور الموجّه والمسيّر لشخوص حكايته، يفضحُ ما سُتر، ويحكمُ ارتداء قناع القاص والناقد والحاسم والجازم للأمور، يقدّم له نماذج لضحايا كُثر تتكرّرُ في المجتمعات المقموعة بسبب السياسة الجائرة التي تكبت صراخها وتنكّل بجراحها، فيبدع في التجسيد ويخفق في التصوير، إذ انّنا نجد الكثير من الانزلاقات الفنّية في الحبكة، ولكنّه يبدي شجاعة خارقة في التأويل والخبر، ويفرض الحلول النهائية للمعاناة من خلال إثارة استحالتها.

theme::common.loader_icon