بهاء طاهر لمّا استحال إلى طائر
بهاء طاهر لمّا استحال إلى طائر
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Wednesday, 30-Oct-2019 06:37
بالرغم من تقنيته العالية في دبج الرواية بشكلٍ متأنّقٍ في الحبكة والتصاعد المبدئي والمنتقل الى الحدث، إلّا أنّ الكاتب بهاء طائر فشل فشلاً كبيراً في مجموعته القصصية «لم أعرف أنّ الطواويس تطير».

وهذا الانزلاق الصاخب يعود إلى خطأ يقع فيه معظم الكتّاب الكبار الذين يلمّون إلماماً كبيراً بمملكة الرواية، فيستسهلون كتابة أنواع أخرى من فنون الأدب ومنها القصة القصيرة التي تحتاج إلى كثير من السبر والصبر والتصويب والتأديب المحدّق بانسياب اللغة.

ستّ قصص

المجموعة تحتوي على ستّ قصص، الأولى بعنوان «انت اسمك ايه»، وتحكي عن تعلّق الجد بحفيده الذي لم يبلغ العامين من عمره، واستبساله من أجل ترويضه والتفاهم معه على طريقة يكفّ من خلالها عن البكاء، وفي عالم النقد، يستحيل على الناقد قراءة ما وراء السطور من قصة سطحيّة لا تجلب للمتلقي إلّا الترفيه السريع.

سكان القصر

في القصة الثانية «سكّان القصر»، تلميحٌ إلى العبودية والسلطة المطلقة التي يمارسها أصحاب النفوذ على الشعب، إذ أنّ الحيّ الذي يدور في الحدث يحيط بقصرٍ قديم بحراسةٍ مشدّدة على مخلوق مجهول، فلا أحد يعود الى هذا القصر، ولا أناس يتردّدون إليه، ومحظورٌ على الجيران أن يشرّعوا نوافذهم ليلاً، أو يلمّحوا في أحاديثهم الجانبية عن كنه هذا القصر الكبير الذي يُحرس وهو خالٍ من الناس.

الحاكمُ هو من يكمّم أفواه الناس ويلجم ألسنتهم عن التساؤل وتداول الأخبار. فيقضون العمر متناسين ما يدور حولهم، ويلاحقون السراب من غير جدوى. وتتجلّى أهميّة هذه القصّة بأنّها تمتلك رمزية حقيقية لا غبار عليها، ولأنّها الأفضل بين القصص الستّ.

لم أعرف أنّ الطواويس تطير

في القصّة الثالثة «لم أعرف أنّ الطواويس تطير»، يتكلم الكاتب عن رجل قضى معظم عمره في غربة طويلة، كأنّها المنفى، وعاد إلى مكان عمله في البلد الأوروبي الذي كان يعمل فيه زائراً هذه المرة، والتعبير الانطباعي الوصفي الذي يطلقه بهاء طاهر في مقدّمة القصة يلخّص محتواها إذ يقول على لسان البطل:» تزحف شمسٌ حامية على الدكّة الخشبية التي أجلس عليها، فأتحرّك قليلاً في اتّجاه جزئها الذي يحميه ظلّ شجرة كستناء تنفض أوراقاً بيضاء هشّة كالقطن المندوف إيذاناً باقتراب الخريف».

والبطل في القصة في خريف عمره، يشاكس ذكرياته بعينٍ دامعة، ويرقب انتفاضة الأغصان في مهبّ الريح بقلب ملطّخ بالحزن. يلتقي في جلسته بصديقة قديمة في العمل يعلم منها أنّها هجرت حبيبها وهو زميلٌ آخر له، وفي أثناء حديثهما، يحدث ما لم يكن في الحسبان، فحديقة مركز العمل تزخر بطواويس مزركشة بالألوان الزاهية، وقد فرضت وجودها بناءً على صاحب المكان الذي تبرّع قبل وفاته للهيئة التي يعمل فيها، ولكنّ هبته كانت مشروطة بوجود الطواويس في المكان. وقد كان الحدث المغيّر للسرد عندما يطير الطاووس فجأة، وهو أمرٌ مستحيل، ويستقرّ على غصنٍ من أغصان الشجرة.

ويحاول رجال الإطفاء اصطياده من غير جدوى إذ أنّه يطير إلى شجرةٍ أخرى، ولكن محاولاتهم تنجح في النهاية، فيدرك البطل بأنّ الطاووس مهما أتى من العجب، يهبط في الأسر تماماً كالإنسان عندما تأسره متطلبات الحياة فيتعثّر ويسقط.

كلاب مستوردة

في القصة الرابعة «كلاب مستوردة»، يحكي قصة رجل وزوجته والمحسوبيات التي فرضت نفسها على الزوج عند اقترانه بزوجة تمتلك نفوذاً، ولكنّها لا تستطيع أن تنجب، وهي تدرك أنّه يخونها ولكنها تصمت بإرادتها، وتستمرّ الحياة بينهما في مناكفاتٍ ومشاجرات، وتبدأ المعركة بينهما كالعادة حول «ساكي» وهو كلب الزوجة، وتنتهي بسلام واستسلام.

قطط لا تصلح

في القصة الخامسة «قطط لا تصلح»، هشاشة في الأسلوب والتوصيف والتناوب في استلام شخصيّات القصة لأدوارها، وهي قصة رجل ينتقل إلى الصحراء للإشراف على أعمال المنجم هناك، ويصادف قططاً يهتم فيها ويعارضه في الأمر مدير الفندق الذي يقيم فيه، المغزى مهمّش وفارغ من المعنى.

الجارة

في القصة السادسة والأخيرة «الجارة»، قصة عجوز تقيم وحدها في شقّة تلاصق شقّة زوجين غادرهما ابناهما بعد زواجهما، فتجد فيهما الحنان الذي افتقدته بعد أن تخلّى عنها ابنها وأصرّت زوجته أن تضعها في دارٍ للمسنّين.

وفي كلّ مرّة تتدهور حالتها الصحيّة، يزداد إصرارها على المضيّ في الحياة بروح الشباب والزهو، لأنّ الحياة في نظرها لا تقتصر على عمرٍ معيّن، بل وجدت كي تمنح الفتنة والسحر للإنسان.

بهاء طاهر لم يطوّر أو يصوّر تفاصيل الحياة وعراقيلها كعادته، ولم ينقل إلينا دواخل النفوس البشرية كما هو منتظر من كاتبٍ متمرّس دخل في ممرّاتٍ مرصوفة بالخير والشرّ لحياة الناس، بل طار كالطاووس وحلّق وقد خال نفسه أنّه امتلك صولجان الكتابة، ولم ينتبه أنّ للمتمرّس أيضاً مآخذ كبيرة قد يقع فيها إن داخله الزهو وداهمه الغرور، وهكذا فشل في هذه المجموعة القصصية التي لم تضف شيئاً إلى هرم الفن الكتابي. 

theme::common.loader_icon