الحصانة القضائية... ملاذ آمن!؟
الحصانة القضائية... ملاذ آمن!؟
القاضي الدكتور حاتم ماضي
جريدة الجمهورية
Thursday, 17-Oct-2019 06:48

ثمة مبدأ قانوني هام هو انّ جميع الناس متساوون أمام القانون. لكن عدداً من الاستثناءات وردت على هذا المبدأ وشكّلت اكبر خرق له.

تُعرف هذه الاستثناءات بإسم الحصانة القضائية. انّ منشأ هذه الحصانة ليس واحداً. فبعضها متصلّ بانتظام العلاقات الدولية (الحصانة الدبلوماسية)، وبعضها يتصلّ بالعمل التمثيلي (الحصانة النيابية)، وبعضها بالعمل الحكومي أو السياسي (رؤساء الحكومة والوزراء)، وبعضها بالعمل الوظيفي (الموظفون الإداريون، رؤساء البلديات وأعضاء المجالس البلدية، الكتاب العدول، المختارون، ولجنة التحقيق الخاصة في جرائم تبييض الأموال)، ومنها ما يتصل بالمهنة (المحامون).

تغلّ يد النيابة العامة عن الملاحقة في حالتين: حالة الحصانة الدبلوماسية وحالة الحصانة السياسية للنائب.

الحصانة الدبلوماسية:

وفرّت اتفاقية "فيينا" للعلاقات الدبلوماسية، التي انضمّ إليها لبنان في العام 1970، لممثلي الدول المعتمدين في لبنان، ظروف القيام بوظائفهم الدبلوماسية بعيداً من كل ملاحقة جزائية. أما إذا ارتكب الدبلوماسي جرماً، فلا يمكن عمل أكثر من الطلب إليه من الحكومة اللبنانية مغادرة الأراضي اللبنانية باعتباره شخصاً غير مرغوب فيه.

الحصانة النيابية:

يتمتع النواب بنوعين من الحصانة: سياسية وإجرائية.

الحصانة السياسية:

وفّر الدستور اللبناني (المادة 39 منه) للنائب حصانة سياسية ليتمكن من التعبير عن إرادة الشعب الذي يمثله والدفاع عن مصالحه بحرية، بحيث "لا يجوز إقامة دعوى جزائية على أي عضو من أعضاء المجلس (النيابي) بسبب الآراء والأفكار التي يبديها مدة نيابته".

لكن هذه الحصانة ليست مطلقة لأنّها محدودة بموضوعها، وبمكانها، وبزمانها.

الحصانة الإجرائية:

إلى جانب حصانته السياسية، يتمتع النائب بحصانة اقل شمولاً هي الحصانة الإجرائية (المادة 40 من الدستور).

هذه الحصانة تمنع سلطة الملاحقة من اتخاذ إجراءات جزائية بحق النائب بسبب جرم ارتكبه أثناء دور الانعقاد التشريعي العادي أو الاستثنائي، قبل الحصول على إذن مسبق بالملاحقة من المجلس النيابي.

لا يعود هذا الإذن مطلوباً في حالتين: حالة الجرم المشهود أو ما هو في حكمه، وحالة وقوع الجريمة خارج دور الانعقاد التشريعي.

رئيس الحكومة والوزراء:

لا حصانة لرئيس الحكومة أو للوزراء إلا إذا كان الفعل المقترف منهم هو الخيانة العظمى أو الإخلال بواجباتهم الدستورية.

في هذه الحالة، لا تؤدي الحصانة إلى انعدام الملاحقة الجزائية وإنما إلى تعليقها بانتظار ان يقرّر مجلس النواب بأكثرية موصوفة اتهامهما بما نُسب إليهما. في هذه الحالة يُحاكمان أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء سنداً للمادة 80 من الدستور.

أما في الجرائم الأخرى غير ما ذُكر أعلاه، كان يستعمل رئيس الحكومة أو الوزير سلطته، ويحور فيها ويحلّ مصلحته الشخصية محل المصلحة العامة إلى ما هنالك. فلا تحتاج ملاحقتهما من اجلها إلى إذن مسبق ويُحاكمان أمام القضاء الجزائي العادي.

انّ الجهة المخولة توصيف الأفعال التي يرتكبها رئيس الحكومة أو الوزراء هي المرجع القضائي الذي تكون الدعوى العامة تحت يده.

الموظفون الإداريون، المختارون، رئيس وأعضاء المجلس البلدي والكتاب العدول

إعتبرت القوانين الخاصة بهذه الفئات انّ ملاحقتهم تحتاج إلى إذن مسبق من الرئيس التسلسلي، إذا كان الجرم ناشئاً عن الوظيفة أو بمعرضها أو بمناسبتها. ويعود للنائب العام التمييزي وحده ان يمنح هذا الإذن أو يحجبه في حال الخلاف بين سلطة الملاحقة والجهة الإدارية المختصة.

لا يعود الإذن المسبق مطلوباً في ثلاث حالات: حالة الجرم المشهود، حالة ما إذا كان النائب العام التمييزي هو الذي حرّك الدعوى العامة سنداً للمادتين 13 و 14 الأصول الجزائية، وحالة ما إذا كانت الإدارة التي ينتمي إليها الشخص المُلاحق هي المدّعية.

أما المحامون، فانّ ملاحقتهم جزائياً تحتاج إلى إذن مسبق من نقابة المحامين عندما يكون الفعل المُسند إليهم ناشئاً عن المهنة. وتكون محكمة الاستئناف المدنية الناظرة بالقضايا النقابية هي الجهة الصالحة للبتّ بإعطاء الإذن أو بحجبه عند وقوع الخلاف حول هذه المسألة.

أما أعضاء لجنة التحقيق الخاصة بمكافحة جريمة تبييض الأموال فيتمتعون بحصانة شاملة، إذ لا يجوز ملاحقتهم لا جزائياً ولا مدنياً عمّا يقومون به من مهام، ومنها الجرائم المنوّه عنها في قانون سرّية المصارف إلّا في حالة إفشاء السرّية المصرفية.

يتبيّن مما تقدّم، انّ الحصانات القضائية تشكّل فعلاً ملاذاً لكل المتمتعين بها، ولا يغيّر من هذا الواقع ما نصّ عليه الدستور أو القانون من إجراءات لرفعها، لأنّ هذه الإجراءات معقّدة كثيراً وغير مرنة خصوصاً لجهة الأكثريات المطلوبة.

من هنا الحاجة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى لإلغاء هذه الحصانات على أنواعها، ما عدا الدبلوماسية منها، لكي لا تصبح ملاذاً آمناً للفاسدين في كل القطاعات بغطاء من القانون. 

theme::common.loader_icon