«الشيء الآخر»... تحديث لقصة فيكتور هوغو
«الشيء الآخر»... تحديث لقصة فيكتور هوغو
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Monday, 07-Oct-2019 06:53
على طريقة فيكتور هوغو في رواية «مذكرات محكوم عليه بالإعدام»، ينطلق غسان كنفاني بحَبكته إلى الدواخل التي تغصّ بها حَشرجة الأرواح البشرية، فيقدّمُ المتّهم الذي يكتب مذكراته ويُهديها الى زوجته ديما من داخل سجنه بصمتٍ حَلَّ عليه بعد الكارثة الأليمة التي أودعته القضبان بسبب جريمة قتل، رغم دفاعه المستميت عن نفسه وبراءته ممّا نُسب إليه، إلّا أنّ الأدلّة كانت جامحة باسقة العلو، حتى أطاحت بكلِّ أملٍ متيَسِّر لتبرئته وإجلاء الحقيقة، فهو مؤمن بأنّه بريء لكنّه عاجز عن إثبات هذا الشيء.

المتهم يدعى صالح، وهو محامٍ متمرّس ماهر في مهنته. يتعرّف، خلال حفلة راقصة حضرها مع زوجته ديما، إلى ليلى الحايك التي كانت صديقتها في مرحلة الطفولة، وقد كانت برفقة زوجها سعيد، الذي يشهر سلاح عشقه بوجهها بشكلٍ هَمجي، يوحي بمدى أسره لها بمفتاح الزوجية، حيث تكون أسرارها مُباحة ومتاحة له في كلّ حين.

يقصده سعيد في اليوم التالي في مكتبه، لِما شاع عنه من صيتٍ ذائع ببراعته في مهنة المحاماة، ويطلب منه أمراً غريباً بعض الشيء، وهو أن يتولّى قضية ميراث ستَرثه زوجته عمّا قريب عن أبيها العليل، الذي أوشَك أن يفارق الحياة، حيث أجمعَ الأطباء أنّ أيامه تكاد تكون معدودة، ولكنه يطلب إليه أن يجعلها تخسر الميراث وأن ينسبه إلى ابنٍ وهمي للوالد، يعيش في المكسيك، حتى لا تفسد الأموال ذوقها فيه، وتَعرض عنه. فحبّ التملّك لديه يدفعه لأن يُعرّض زوجته لخسارة الثروة في سبيل أن تبقى طَيّعة له وتحت جناحه الآسِر، وحمايته المادية لها.

يقبل صالح العرض، ويُنذر الزوج سعيد بأنّ القضية خاسرة، وأنّ ليلى سترث فعلاً أموال أبيها بسبب ضعف موقف الابن المكسيكي الموهوم وعدم كفاية الأدلة، ولكنّ سعيد يصرّ على المجازفة بالقضية حتى يؤجّل قدر استطاعته حصول ليلى على المال.

تبدأ علاقة غير شرعية بين ليلى وصالح عند غياب زوجها عن العمل متذرّعَين بانغماسهما بالقضية، وتنتهي الأحداث المتتالية بمصرع ليلى على يد رجلٍ مجهول، وتوجّه أصابع الإتهام إلى صالح الذي كان يزورها بشكل مستمرّ في منزلها.

عنصر المفاجأة والظلم الذي وقع على رأس صالح، ينفيانه إلى عالم مهجور يحدّه الصمت الطويل، حيث يعجز محاميه وزوجته والقاضي عن حمله إلى الكلام، لقد فشل في الدفاع عن نفسه، ولم يقر بعلاقته الآثمة بليلى حرصاً منه على مشاعر زوجته، وسمعة أولاده، وليقينه بأنّ هذا الاعتراف لن يغيّر شيئاً في القضية. فيترك رقبته تذهب طيّعة إلى المشنقة، ولم يصغِ إلى صوت خوفه، بل آثَر الاستسلام للموت الغاشِم عقاباً لنفسه على تورطّها في أمر شائن، أودى به إلى التهلكة.

هو يكتب في السجن على طريقة بطل هوغو، مودعاً سلاسل حزنه في كلماتٍ تضيق بها الورق، ويحزّ عنقها الندم القاتل. الحبكة البوليسية ضعيفة لأنّها نسجت بأسلوب يفتقر إلى البراهين الواسعة، التي تدعم الجريمة والدلائل والشواهد، لكنّ التربّص الإنساني في توهّج المشاعر وانسيابها كان حاضراً بأسلوب حيادي مُبهر، يظهر لنا تناقض المشاعر في أعماق الإنسان، وضعفه المُخزي أمام اللحظة الشهوانية العابرة، من دون التفكير بجديّةٍ في المستقبل.

«أقولها لكم للمرة الأخيرة من دون أن أتوقّع مردوداً بالجزاء ولا بالعقاب، ولذلك لا بد أن تكون صادقة، فليس ثمّة أصدق من حكم يطلقه على نفسه رجل ميت».

بهذه الكلمات يختصر لنا غسان كنفاني معاناة السجين صالح في تبرير ما يحزّ في قلبه من القهر والسخط والندم واليأس. وقد بَلور فكرة هوغو وشخصية بطله الفرنسي في إطارٍ شرقيٍّ لرواية نَسجها بإتقان، وأخرجها بالنسخة العربية، أقرب منها إلى الترجمة من الابتكار، في قالبٍ من التحديث والتشويق، مستخدماً عنصر الإثارة وحَيّز الجنس الذي قد يدمّر أوطاناً عند الانغماس الضال فيه.

theme::common.loader_icon