ثنائية الحُبِ والثورة في رواية «ساعي بريد نيرودا»
ثنائية الحُبِ والثورة في رواية «ساعي بريد نيرودا»
كه يلان محمد
جريدة الجمهورية
Wednesday, 21-Aug-2019 06:29
إستعادة سيرة المشاهير وتدوين المراحل المفصلية في صيغة العمل الروائي تتطلبُ حسّاً فنّياً في آلية الإختيار والتوظيف لأنَّ المؤلّف يتكئُ على عناصر تجدُ لها مرجعيات في الواقع، الأمر الذي يفرضُ تنظيم المُعطيات بما يخدمُ البناء الروائي الذي تختلفُ موجهاته عن مُقتضيات التواصل مع المادة التاريخية البحتة.

ومن المعروف أنَّ مبدأَ المتعة هو السائدُ في الرواية، فيما الغرضُ من متابعة ما يتوفر في مراجع تاريخية قد يكونُ تعليمياً أو توثيقياً. إدراكاً منه لموجبات العمل الروائي وسياقات التعاطي مع محتوياته، نسجَ الروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا وحدات عمله «ساعي بريد نيرودا»، إذ يتّخذُ الكاتبُ محطاتٍ من حياةِ مواطنه بابلو نيرودا إضافة إلى مرحلة من تاريخ بلده نواةً لسرديته. غالباً ما تنتظرُ القارئ على الصفحة الأولى للأعمال الروائية عبارات تشير إلى أنَّ أيَّ تشابه بين شخصيات واقعية وشخصيات مذكورة في الرواية هو مجرد صدفة، لكن توضيحات صاحب «أب سينمائي» لا تتوقف عند عبارة توضيحية، بل يوردُ معلومات عن حيثيات كتابة روايته فكان عمله في الصحافة وتكليفه بإجراء الحوار مع بابلو نيرودا وتفرّغه لهذه المهمة تماماً قد أتاح فرصة ليعودَ لمشروعه الروائي الذي توقف عن كتابته، ومن ثُمَّ يتفاجأُ القارئ بتلميح الكاتب بأنَّ ما يتابعهُ ليس تلك الرواية التي أراد كتابتها في إيسلا نيغرا، بل هي نتاج لما يصفهُ بمداهمات صحافية فاشلة لمعقل الشاعر. زيادة على ذلك، فإنَّ سكارميتا يُقدّم رأيه عن أشكال جديدة في كتابة الرواية، لافتاً إلى إنسياق عددٍ من الكتّاب المُجايلين له وراء مفاهيم سردية حديثة بينما ظلَّ صاحب «عرس الشاعر» مُتمسّكاً بمجازات متداولة في وسط الصحافة والمفردات المبتذلة، مفوّضاً راوي كلّي العلم لسرد منجزه الروائي الذي ينهضُ على ثيمة الحب والثورة. 

صوت اليسار
يكتسبُ نيرودا، باعتباره شخصية روائية في هذا الإطار، دوراً محورياً في تطعيمِ فضاء السرد بنزعة رومانسية، كما أنَّ إسمَه يحيلُ أيضاً إلى حقبة شهد فيها بلده إحتدام الصراع بين التيار اليساري ومناوئه اليمني، لذا فمن الطبيعي تضفير متن السرد بنتفٍ من المعلومات عن ترشيح نيرودا لرئاسة تشيلي ومن ثُمَّ إنسحابه لصالح سلفادرو الليندي، إلى أن يصبحَ سفيراً للحكومة اليسارية في باريس. ومع هذا، فإنَّ أنطونيو سكارميتا لا يُثقلُ عمله بالحشو والإسهاب، إنما يأتي أسلوبُه مقتصداً في الإحالات ولا يمكنُ للقارئ وضع تلك المعلومات التاريخية خارج بيئتها الروائية. وما يشدُ المتلقّي إلى مناخ هذا العمل ليس خلفيته السياسية ولا الآيدولوجية بل التشويق الذي يتغلغلُ في جسد النص، ولا يكون مصدره إلّا إنشداد ساعي البريد ماريو خيمينث إلى عالم نيرودا من جانب وعلاقة الحب القائمة بين ماريو وإبنة صاحبة الحانة بياتريث غونثالث من جانب آخر. وما أن يبوح ساعي البريد بإسمها للشاعر حتي يتذكر الأخير حبيبة دانتي ويعلق بأنَّ البياتريثات يسبّبن غراميات إستثنائية. والطريفُ في الأمر أنَّ بابلو نيرودا هو الزبون الوحيد لماريو، ولولا إمتلاكه للدراجة لخَسِرَ فرصته ولم يصبحْ موزّعاً للبريد وبالتالي كان يستحيلُ إيجاد قناة التواصل مع الشاعر الذي بدتْ قسماته وتصرّفاته مثيرة للإهتمام. كما لم يتشجع لإقتناء ديوانٍ لزبونه المقيم في إيسلا نيغرا، هكذا لم يعدْ ماريو مكرهاً على تمثيل دور المريض للهروب من مهنة الصيد. ومن الملاحظ أنَّ أبطال سكارميتا مُغرمون بالسينما، من ضمنهم ماريو كما أنَّ الفرجة على الأفلام والأخبار تُصاحبها طقوس إحتفالية. إضافة إلى ذلك، الأماكن التي تتحركُ فيها شخصيات الرواية عبارة عن البيت والحانة ومكتب البريد. ويعتمدُ خطاب الرواية على الحوار والسرد الإخباري فضلاً عن الوصف.

شطحات الشعر
توحي مفردة العنوان بأنَّ ثمة شخصيتين أساسيتين في العمل، وينفردُ الإثنانِ بتقاسم مربّعات الرواية مع أنَّ راوي كلي العلم لا يشيرُ إلى غراميات الشاعر، لكن يُفهمُ من سياق الكلام المُتبادل بين ماريو ونيرودا بأنَّ ما ينشره الأخير يغذّي عاطفة ساعي بريد ويحدو به لمحاكاة الشاعر في إستخدام الإستعارات، ويستنكه مستوى آخر من مدلول الكلمات. ينصحُ نيرودا صديقه بالتفكير عندما يمشي لأنَّ الشعر لا ينزلُ على مَن يتوقف جامداً، وبذلك كلّما تقدّمَ السردُ يتعمّقُ إحساس ساعي بريد بأهمية الشعر إلى أن يتأكّدَ من سحره حين يبدأُ بكيل المديحِ لضحكة بياتريث وشعرها ومفاتنها الجسدية، وهذا ما يثير غضب أم بياتريث التي تدير حانة المرسي، محذِّرة إبنتها من قوة الكلمات التي توهمُ لنادلة ريفية بأنها أميرة فينسية، لذا يهونُ على روسا تحرّش سكّيرِ ببياتريث على أن يغازلها شاعر بكلمات مُخدّرة. كما تذكّرها بأنَّ الشعراءَ كلّهم يفكّرونَ على غرار نيرودا الذي قال: «أحب حب البحارة الذين يأتون ويذهبون يتركون وعداً ولا يرجعون أبدأ»، ومن هنا يكونُ مؤلف «سونيتات الحب» طرفاً في هذه العلاقة الغرامية، فمن جهة تريدُ دونيا روسا أن يتكفّل الشاعر بإقصاء ساعي البريد عن إبنتها، ويطالبُ ماريو بدوره مساعدة الشاعر لأنَّه قد ورّطهُ في الحب بدواوينه وعلمه إستخدام لسانه في غير إلصاق طوابع البريد. يدور النقاش بين الشخصيات الثلاث إلى أن يتم إعلان فوز سلفادور الليندي في الإنتخابات ويتزامنُ ذلك الحدث مع خوض ماريو مع حبيبته تجربة حسّية عاصفة داخل مستودع الحانة، فيما كان زبائن دونيا روسا يحتفلون بنجاح الثورة الديموقراطية. ما يجدرُ ذكره أنَّ ترابط الحدثين ليس إعتباطياً، إنما مؤشر لما يجمعُ بين الثورة والحب من المشتركات الكثيرة، كما أنّ إيراد الأمثال الشعبية على لسان روسا ردّاً على الأشعار التي ينطقُ بها ماريو، إيماءة لوجود تفاوت في مستويات الوعي بين الشخصيات الروائية. لاينقطعُ ماريو عن مراسلة الشاعر عندما ينتقلُ إلى باريس ويزوّدُ الأخير ساعي البريد بالموسيقى الفرنسية، وتراودُ ماريو رغبة السفر إلى عاصمة النور، لكنّ مدّخراته تستنفدُ بما يصرفه على طفله من الأموال وتشي مطالبُ نيرودا من صديقه بأن يسجلَ له أصوات بيته والأجراس وصوت العصافير بشدة شوقه إلى بلده. مفصل آخر من الرواية يتناولُ الإنقلاب على الرئيس المُنتخب وما يستتبعُ ذلك من التوتر وعسكرة المجتمع ويُفضلُ الكاتبُ تقنية الإيحاء على التصريح لبيان عواقب الإنقلاب حيثُ ينتزعُ ساعي البريد صورة ماركس وجيفارا عن جدار مركز البريد، لكن يترك صورة الرئيس المنتخب كماهي وأراد بذلك أن يتحدّى الإنقلابيين تتصادفُ لحظة الإنقلاب مع ذكرى إستقلال تشيلي وترقب ماريو لإعلان الفائز بمسابقة الشعر. ينتهي شريط السردِ بتتبّع اللحظات الأخيرة في حياة بابلو نيرودا الذي يحاصر الجنودُ يبته وهو يحتضر. يشارُ إلى أنَّ البعد الجمالي لهذا العمل يكمنُ في تفاعله مع النصوص الشعرية وما يحملهُ من نبرات ثورية دون أن تقعَ في مزالق تعبوية.

theme::common.loader_icon