شيعة يتاجرون بالمجدرة!
شيعة يتاجرون بالمجدرة!
جوزف طوق
Wednesday, 24-Jul-2019 06:12

المجدرة أخطر من المخدرات، وحتى لو كانت تجارتها مشروعة، إلّا أنّ التلاعب بمقاديرها يمكن أن يشكّل تهديداً واضحاً ومباشراً للسلم الأهلي، خصوصاً إذا تجرّأ ماروني مثلاً من زغرتا أن يخبر والدته أنّ المجدرة عند الشيعة في النبطية أطيب... فبالتأكيد سيسقط عندها العيش المشترك ويعاد رسم خطوط التماس وتندلع حرب أهلية بتحليش الشعر.

المجدرة متغلغلة في عروقنا أكثر من الطائفية، وراسخة في عقولنا أكثر من كلام الزعيم أو خطبة رجل الدين... لكنّ الاتجار بها بحنكة بين المناطق اللبنانية واستثمارها بعقلانية ممكن أن يكون له فوائد اجتماعية كثيرة، تماماً مثلما فعل الكاتب الطاهي يحيى جابر في مسرحيته الأخيرة «مجدرة حمرا»، واستغلاله الممثلة أنجو ريحان وتوظيفها كتاجر لإيصال طبخة بضاعته إلى الزبائن.

تَقبّل مجدرة الآخرين يحتاج إلى قليل من الانفتاح وكثير من الموضوعية، خصوصاً إذا كانت العزيمة إلى النبطية وأنت غريب عنها، هناك حيث تدور أحداث المسرحية لمدة ساعة ونصف على أريكة في صالون تفحّ فيه رائحة بصلة محمّرة. على هذه الأريكة تُحرّك أنجو ريحان بملعقة موهبتها التمثيلية 3 شخصيات متناقضة بطبعها، لتمزجهم في لعبة مونودرامية لافتة وتقدّم أداءً واحداً وكاملاً بطعم البراعة وحبّة مسك. 

أنجو ريحان لوحدها على المسرح، ساعة تكون مريم المثقّفة والمنفتحة على العالم، وساعة تكون فطوم الأرملة، وساعة تكون سعاد المرأة المعنَّفة والمظلومة.

تمثّل أنجو وحيدة، ولكنها تملأ الصالة بصخب شخصياتها، تضع على طاولات الجمهور في «تياترو فردان» مقبّلات من الكوميديا، وأطباقاً رئيسية من السوسيولوجيا، وحلويات من التراجيديا والدموع. ترضي كلّ الأذواق بأدائها، تجعل المشاهد يسيل لعابه على أطايب حركتها على المسرح واحترافيتها في عيش كلّ شخصية بنفس القدر من الانغماس العاطفي والوجداني. تجلس، تقوم، تصرخ، تنفعل، ترقص، وتمسكنا بيدنا لتأخذنا في زيارة إلى هيديك المنطقة، حيث نجد خالاتنا وعمّاتنا وأمهاتنا لكنّ لكنتهنّ ولباسهنّ ومجدرتهنّ مختلفة، وأما الباقي فبالظبط مثل بيتنا.

المخرج والكاتب يحيى جابر مثل كاهن الرعية، يعرف كل أسرار الضيعة وأخبارها، لكنّه لا يحتفظ بأي منها لنفسه، بل يفضحها في كلّ مرّة أمام آلاف المشاهدين. عرف في «مجدرة حمرا» كيف يأخذنا إلى مكان جديد ومختلف ليرينا بأم العين كم نتشابَه ببيوتنا وعاداتنا وتقاليدنا، كم نتقاسم مشاكلنا ومخاوفنا وضحكاتنا. تعدّى على خصوصية نساء شيعيات في النبطية، ليأخذنا إلى عوالم موازية تعاني فيها النساء على اختلاف طوائفهنّ وانتماءاتهنّ نفس أسباب القهر والحزن والظلم. وكما لو أنه يقول تتعدّد المناطق، وتتعدّد المذاهب، وتتعدّد التقاليد، والمجدرة واحدة.

المجدرة الحمرا في الجنوب، ومجدرة الفاصوليا في البقاع، ومجدرة البرغل في الشمال، والمجدرة الصفرا، والمدردرة، والمصفّاية... ومجدرات على مدّ النظر تصنع بيوتاً، وتشبع عائلات، وتجمع رجالاً ونساء وتفرّق بين آخرين، وترسّخ أمجاداً وتخلق منافسات، وتحفظ الأسرار وتخفي المشاكل والعورات، وتستر على أعراضنا وجوعنا... بَس كلّ ما تفضى المونة ولا يجد الرجل مجدرته في صحن أمامه، يلوم المرأة ويلعن عدسها وبرغلها وبصلها وأصلها، ويحوّل مجتمعاً برمّته إلى جاط سلطة تتجانَس فيه النساء بطعم خلّ العيش مهما اختلفت ألوانهنّ.

theme::common.loader_icon