«نيران صديقة»... إنتقاد للأنثروبولوجيا السائدة
«نيران صديقة»... إنتقاد للأنثروبولوجيا السائدة
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Tuesday, 23-Jul-2019 06:26
الأسلوب الروائي السينمائي ينضح بالتعبير والتوصيف والتكديس الميلودرامي والنقدي والساخر والمتألم في كتابات علاء الأسواني، صاحب رواية «عمارة يعقوبيان» التي تحوّلت إلى مادة سينمائية حظيت بكثير من النجاح.

يَجترح أبطال الأسواني في مجموعته القصصية التي تحمل عنوان: «نيران صديقة»، ذنبَ الأنثروبولوجيا للمجتمع العربي الخانق بالفساد السياسي والاقتصادي والحضاري، ليتلوّنوا حسب رغباتهم ومصائرهم المسيّرة رغم اقتناعهم بأنّهم يخيّرون في أقدارهم، فيقدّمُ كلّ منهم نموذجاً سلوكيّاً نشأ عن تبعيات الوضع الاجتماعي والانساني الخطير في بيئتهم.

أوراق عصام عبد الباقي
تبدأ المجموعة القصصية بحكاية «أوراق عصام عبد الباقي»، وهي قصة جريئة اقتبسها الكاتب حسب قوله من حكاية أحد أصدقائه، ومنعت من النشر من قبل هيئة الكتاب أكثر من مرّة، بسبب الإنتقاد الواضح والملحّ من بطل القصة عصام للعقلية المصرية والتبجّح الخاطئ لحضارة الفراعنة التي لا علاقة لها بالمجتمع المصري حسب وصفه، وبالرياء والخداع الذي يملأ قلوبهم ويقنّعهم بمظهر الطيبة، فيضمرون عكس ما يظهرون، ويسعون للخديعة تحت شعار السلم. ولم يعبّر الأسواني فيها عن رأيه الشخصي، ولم يمهّد لإثارة اللغط والسخط، بل نَسب شخصيات قصصه للقلم وحده، فهو ليس المسؤول عن السرقة إن قدّم شخصية اللص، وغير مسؤول عن الخيانة إن رسم شخصية الجاسوس، ولكن دور النشر رفضتها أيضاً حتى لا تتحمّل تبعات نشرها. حتى تحمّس لها ناشرٌ ووافق على إصدارها، ولاقت ترحيباً نقديّاً واسعاً من كبار الكتاب، وتأنيباً حادّاً من ناقدين آخرين اتّهموا الكاتب بالانحياز للغرب.
وحتّى يُبنى النقد سليماً، لا بدّ من أن نتطلّع إلى خلفية شخصية عصام عبد العاطي، وليس إلى الشخصية نفسها، فمهما حاول الكاتب إلقاء التبعية على بطل الحكاية، فإنّ دوره في إظهار المغزى يعبّرُ في اللاوعي عمّا يضمره من رأي دفين.
ورغم أنّ ما زعمه الأسواني صحيح بخصوص الاحتدام الوهمي القائم في أذهان القرّاء والاختلاط الحاصل بين شخصيات الأبطال وشخص كاتبها، إلا أنّه وفي هذه القصة بالذات، يظهرُ جزئيّاً بعضَ الانتقاد المرير للمجتمع العربي بسحره الوهمي وتقاليده المتوارثه، وتبعيته المطلقة لِما هو مسموح وممنوع، حيث يمارسُ الحرام في الخفاء، والهوانَ تحت شعار العزّة والكرامة.
عصام عبد العاطي هو ببساطة شخصٌ كارهٌ لمجتمعه، شديد النقد والمقت لِما يدّخرهُ من حوله في صدورهم من عقدٍ جارفة، سبَّبها الظلم والحرمان. وحيدٌ لأبويه، والده رسّام موهوب لم ينل حظّه في الشهرة، وقضى العمر يعمل في جريدة لا يسمع بها أحد. قضى عمره قانعاً بقدره، مجالساً أصدقاء مطموسين مثله في الدرك الأسفل من المجتمع، من مطرب وموسيقي وكاتب لم يحالفهم الحظّ في النجاح. فرحته الوحيدة كانت قبل موته بوقتٍ قصير عندما جاءته رسالة من معجب سمع برسوماته ولمحها في الجريدة المحجوبة. يموت الوالد ويكملُ عصام تعليمه ويتوظّف منتهجاً سبيل العزلة، فيثيرُ الكراهية من حوله في العمل، بسبب أسلوبه الجامد في الحوار، ويعاشر الخادمة التي تعمل عندهم ليلاً بمعرفة أمّه التي تدّعي التجاهل واللامبالاة، بسبب حاجتها لمساعدة الخادمة بعد إصابتها بمرض السرطان. والدائرة التي تطوّقه تزخرُ بالصراعات، أمه تتشاجر مع جدّته ولا تعيرُ حسباناً بأنها أمها، وجدّته تنتهز الفرصة لتشمت بأمّه. لم تعتره الفرحة إلا عندما بدأ يكتشفُ عالم الغرب من حوله، فقرأ في المجلات الأجنبية وعاشَر السواح المتوافدين لزيارة مصر. وعندما عثر على حبيبة أجنبية وقضى الليل عندها، اكتشف في اليوم التالي أنه كان مهلوساً وأنه اخترعها من فكره المريض، ويأبى تقبّل الحقيقة، فيودع في مستشفى الأمراض العقلية.

المرمطون
في القصة الثانية «المرمطون» انتقادٌ للسلوك الجنسي الشاذ الذي يقبعُ في ردهات الدوائر الهامّة والشخصيات البارزة في البلد. فيكتبُ الأسواني عن هشام، الطالب الناجح الذي أصبح طبيباً، وتم تعيينه بعد تفوّقه نائباً في قسم الجراحة العامّة، ولكن الدكتور بسيوني رئيس القسم وصفه بالمرمطون وجعله يرسب في امتحان الماجستير رغم إجاباته الصحيحة لأنّه على حدّ قوله لم يعجبه! بعد أيام زاره هشام في جلسة سرّية إلى مكتبه، فأصبح الأقرب إلى قلبه، ومنحه الترقية والنجاح وعيّنه مدرّساً مساعداً في قسم الجراحة. وهذا تلميح واضح للعلاقة الجنسية التي جمعت بينهما.
النقد الموجع يظهره الكاتب في قصة «إنّا أغشيناهم»، إذ يميط اللثام عن مدى الفاقة التي ألمّت بالمصريين، وجعلت موظف الحكومة الأستاذ جودة يُبسمِل ويقرأ سورة السد مع زوجته لأنه اشترى قميصاً جديداً من بور سعيد، وخاف أن تضبطه ادارة الجمارك هناك.

سيدي المسؤول
في قصة «سيدي المسؤول عن تكييف القاعة» مرارة حارقة يحكي فيها شخصٌ مجهول عن أهل جنين في فلسطين الذين انشغلوا عن الحرب بزراعة البرتقال، ولكنّ النصر المبين الذي تخايَلوا أنهم سيحققونه بعد دخول القوات الأردنية ليحتلّوا جنين ويدافعوا عنها، جعلهم يتشبّثون ببارقة أمل. فرحّبوا بهم وانضمّوا إلى صفوفهم. ولكنّ الخيبة كانت في انسحابهم سريعاً في اليوم التالي، واعدين إيّاهم بحضور القوات العراقية لحمايتهم، فكانت الصدمة أن اقتحمت القوات الاسرائيلية المدينة ووقعت في قبضتها.

نظرة إلى وجه ناجي
في حكاية «نظرة إلى وجه ناجي»، يعبّر الكاتب عن انبهار العرب بكلّ من يمتّ لجذورٍ أجنبية، حيث كان الفرير مدرّس الصف يقوم بضرب التلاميذ وإهانتهم، إلى أن وفد ناجي الى الصف وهو تلميذ نجيب أبوه مصري وأمّه فرنسية، يجتذبُ محبة رفاقه، ولكنّه يثور ويستنكر عندما يقوم الفرير مرة بضربه. ولدهشة الجميع، يعود في اليوم التالي وقد عقد حلفاً خفيّاً مع الفرير على تدوين اسم كلّ طالب يتكلم أو يثير الشغب في الصف، ولم يرحم رفاقه فقام بالوشاية عنهم. هنا يدرج الكاتب تلميحاً سياسيّاً للتواطؤ الخائن بين بعض سياسيي العرب مع سياسيي الغرب، للتنكيل بشعوبهم واخوانهم.
أسلوب علاء الأسواني رشيق متأنٍّ، يغربل المغزى ليحييه في سبائك من الحبكة المتماسكة، التي لا يصيبها الخلل ولا الالتواء في أيِّ منعطفٍ تسير فيه، وواضحٌ تأثره بأسلوب نجيب محفوظ في تسيير الحدث نحو نقطة النهاية بلا تقصير أو تصدير للمواقف الحسّاسة، والنقد يستحيل إلى إطراء عند التمعّن في أصول الفن الروائي لديه.

theme::common.loader_icon