ثورنتن هال.. ومصائد العشق التاريخي
ثورنتن هال.. ومصائد العشق التاريخي
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Tuesday, 04-Jun-2019 06:45
على رغم غلبة الجمل الوصفية والإنشائية التي تدلّل على اقتباس الخيال من مواقف التاريخ، إلّا أنّ مخيّلة الكاتب ثورنتن هال لم يفتها التعمّق في مهبّ الريحِ السياسية الجائرة التي كانت تسودُ بلاط قصور السلاطين والحكام في أوروبا في الزمن الغابر، فجاءت المجموعة القصصية «مكايد الحب في قصور الملوك» خير تعبير لبيت القصيد.

والقصصُ تبدو لشدّة ملامستها الواقع، أقرب من تصويرٍ طبيعي للمشاهد المتوالية التي ترسمها الحبكة باستحكامٍ بارع، فتظهرُ أقرب منها للبصر من البصيرة لشدّة سلاستها، ومتانتها، واحتكارها الحشد المونولوجي المتفاوت لمصائر البشر وترجمة بنات أفكارهم، وكأنّه سبق عصره في التحديث السردي لبناء القصص وتحديد خصائصها وحتى التحرّر منها دون التعدي على هيكلة التأسيس الفني.

إناء الوجع
قد نخالُ بأنّ القصص قد كتبت بقصد التلهّي ومنح التسلية للقارئ، ولكنّ التعمّق الإنساني في طيّات كلّ حكاية، ينضحُ في اناء الوجع البلوري للأرواح التي تتحرّك كما يشاء قلم الكاتب، ففي قصة «مدام لي شفاليه»، نجد بطلها «ديون» إنساناً مزدوجاً، يمارس دور الرجل والمرأة معاً، فقد شبّ على الغموض، لم يعرّفه أحدٌ بحقيقته، ولم يقر بدوره للآخرين، عن حقيقة جنسه، وقد لعب دور الجاسوس في عهد الملك لويس الخامس عشر، وتنكّر في زيّ امرأة، للتقرّب من اليصابات امبراطورة روسيا، التي عزم الملك اقامة علاقات ودّية معها، فحملها ديون على عقد محالفة مع فرنسا والنمسا، وعاد مكلّلاً بالنصر، ولكن مسألة جنسه شاعت وراجت، وباتت حديثاً تلوكه الألسنة في كلّ مكان، ورغم تطوّعه في الحرب واستبساله في ميدان المعارك، إلّا أنّ الكثيرين ظلوا على اعتقادهم بأنّه فتاة، ولم يُكشف القناع عن السر إلّا بعد وفاته، عندما عرف الناس جميعاً بأنّ ديون كان رجلاً بعد أن كشف طبيبٌ عليه. وهذه القصة تمثل فضول الناس وظلمهم، ودور الإنسان الذي يستطيع أن يتحجّم أو يتطوّر بناءً على إرادته الذاتية رغم كلّ المشقات.

سرّ جزيرة سنت مرغريت
في قصة «سرّ جزيرة سنت مرغريت»، يسترسل الكاتب في رواية حكاية هي أشبه بميثيولوجيا الأساطير، أو قد تماثل قصة قايين وهابيل، كما وردت في الكتب السماوية، إذ يخبرنا بأنّ السرد يبدأ عندما ولدت الملكة «آن» زوجة الملك لويس الثالث عشر ولداً وارثاً للعرش، ولكنّ الكهنة أعلنوا أنّ توأماً له ولد بعد دقائق، ما اعتبره الملك فألاً سيئاً لما ستؤول إليه الحال إذا شبّ ولداه وتنازعا في الملك. فقرّر أن يقصي ولده الثاني عن القصر ومنحه لعائلة تتبنّاه، ولكن الولد يكبر ويعرف السر، وعندما يتناهى الخبر عن وجوده إلى أخيه لويس الرابع عشر، الذي أصبح ملكاً بعد وفاة الأب، يأمر بسجنه سنوات طويلة ويلبس قناعاً حديدياً في حبسه الفولاذي حتى لا يتعرّف إليه أحد، ويدرك مدى الشبه بينه وبين توأمه الملك. هذا الإسقاط الزمني الحدثي برع في حشوه وتفصيله الكاتب، وبلغ به ذورة التصوير.

البولونية الحسناء
في قصة «البولونية الحسناء والامبراطور»، يروي الكاتب قصة فتاة بولونية متزوجة، عاشقة لوطنها حدّ الهذيان، يقع في هواها نابليون الأول، ولكنها تقابله بالصدّ والرفض، فتجد نفسها مدفوعة إلى تلبية طلبه تحت ضغطٍ من حكومة شعبها، لأنّه وعد بتحرير بلدهم إن طاوعته في عشقه وولهه بها. وعندما استجابت لنداء قلبه جذبها العشق ولفحها بنيرانه، وباتت هي أيضاً أسيرة هواه، ولاحقاً اعتذر لها عن استحالة خوضه معركة لتحرير بولونيا، مصرّحاً لها بصدق بأنّ وطنه فرنسا هو الأولى بتضحياته وجهوده.
وتتوالى القصص، ويرسم عليها التاريخ ظلّه ويخط على أهدابها أرق أحلامه، وغزل غرامه على بساط مخملي يرتعُ بأقدام عاشقين ولّوا وهلّوا دون أن يمسّ القدر بقلوبهم مهما بلغت درجة قسوته.
ثورنتن هال كاتبٌ أفرغ من مخيلته صدى التاريخ ومصائد عشقه، وكتب عن مكائده التي ما برحت تقرع النواقيس في كلّ زمانٍ ومكان.

theme::common.loader_icon