«نيتوشكا».. نموذج سيكولوجي للماضي
«نيتوشكا».. نموذج سيكولوجي للماضي
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Tuesday, 14-May-2019 07:20
بأسلوبٍ يبهرُ البصيرة، ويخطفُ الألباب، يطيرُ بنا دوستويفسكي في فضاءٍ سحيقٍ من التنقيب الميلودرامي في عالم الإنسانية، ليحطَّ بنا في غياهب الماضي الذي يتنشّقُ منه الإنسانُ رحلته القادمة، ليتهيّأَ للآتي بما ترسّب في قعر روحه من المشاهد التي مرّت به سريعاً، وتركت في ذاكرته الوجع والقمعَ والتأثير البصري والحسّي.

نيتوشكا فتاةٌ فقيرة، كانت تبلغ السنتين من العمر عندما تزوجت أمها من موسيقي متجوّل طمعاً في أن تسلكَ معه درب الشهرة، فقد خلب قلبها، ودفعها حبها له بأن تهب له الألف روبل وهو كل ما ادّخرته، ليبذّره في شربِ الخمرِ والتسكّعِ خالي الوفاض في الطرقات.

عقدة إليكترا

تلك الوحشة التي عاشتها الأم دفعتها لأن تغدو قاسية شديدة المراس، فجعلت طفلتها نيتوشكا تميلُ لزوج أمها وتنأى عنها، وتخال بأنّه مظلومٌ بائسٌ مع والدتها، وأنّه يتنشّق الويل صابراً محبّاً طائعاً، وإُذا بها ترمّم منه تمثالاً خرافياً من العفّة والإخلاص والمحبة، ومن هنا تنمو لديها عقدة اليكترا، كما شرح عنها فرويد، وهو التعلق الشديد في اللاوعي للفتاة بأبيها أو من يحتلّ مكانه.

ولكنّه يحثّها لسرقة المال من أمّها وإعطائها له ليحتسي الخمر، فيعزّز شعور الذنب في نفسها، ويغدو شغله الشاغل السعي في تحطيم كلّ موسيقيٍّ جديد يسمع به أو عنه، ليرضي عقدة النرجسية في نفسه، ويقنع نفسه بأنّه الفنان الحقيقي الخالد الذي لم تتح له الفرصة الحقيقية بعد في دنيا الشهرة الواسعة، وأنّ العالم لم يستفد من قدراته الخارقة حتى الآن.

فيحسّ بالأرض تميد من تحت قدميه وبالزلزال المدمّر يعصف بحقيقته، عندما يأتي للمدينة عازفٌ مبدع، يقف له الناس احتراماً، ولا يستطيع أن يجد فيه علّة واحدة لينتقد فنّه ويمزقّ الرؤيا الجميلة لإحساسه في قلوب الناس، فيعود إلى منزله ويكشتف بأنّ زوجته قد ماتت، وتحاول نيتوشكا أن تلحق به ليأخذها معه فيهرب منها، وأثناء ذلك تقع على الأرض مغشيّاً عليها فيأخذها الأمير لمنزله ويعمل على تربيتها مع ابنته وزوجته.

علاقة غريبة

تنشأ علاقة غريبة الأطوار بينها وبين ابنه الأمير، وتتعلّق إحداهما بالأخرى بعد عدواة طويلة الأمد، ولكنها ترحل مع أمها للعيش في مدينة أخرى، وتتولّى شقيقتها ألكسندرين ميخائيلوفن تربية نيتوشكا، مع زوجها وأطفالها.

تكبر نيتوشكا وهي تلحظ عمق التوتر الداهم الذي يطرأ دائماً على ألكسندرين في حضرة زوجها، حتى تكتشف رسالة سرّية موجّهة للأخيرة، وقد دسّها أحدهم في كتابٍ موضوعٍ على رفّ المكتبة.

لم تستطع أن تبوح باكتشافها لأحد، وأغلقت على نفسها باب الوجع، حتى اكتشف زوج ألكسندرين ذات يوم أمر الرسالة وخال بأنّها موجّهة لنيتوشكا، وظنّ أنّها تخفي عاشقاً سرّياً عنهما، واتّهمها بالسوء، وهنا تنتهي الرواية بأن تعلم ألكسندرين بأنّ سرّها قد افتضح، وتقع مغشيّاً عليها، ويحاول الجميع إنقاذها وتخلد في سريرها شبه غائبة عن الوعي. ونيتوشكا في صراعٍ مريرٍ مع النفس يمزق أشرعة روحها، توقها لإعادة الأمان لقلب ألكسندرين.

فلسفة عميقة

دوستويفسكي كعادته، يقتحمُ عالم السيكولوجيا ليسكبها في إناء الفلسفة العميقة، حيث الترسّبات المخزية التي تحدّ ضفاف الماضي لذاكرة الإنسان، ويولج في تعتيم الحدث ليصدّره لاحقاً للنور، وكأنّ إخفاء الأمور لفضحها لاحقاً هي لعبة التنوير الدراماتيكي للخبايا البشرية، فالموسيقي البائس زوج الأم هو ضحيّة اعتداده بموهبته المزعومة، والأم ضحية عشقها الوهمي لرجلٍ لا يفقه من الحب إلا لماما، والطفلة ضحية الحرمان من الأب والقسوة من الأم والسعي لنيل ما تفتقره من العطف من زوج الأم، وفي النهاية كلّ الشخوص في روايته، يتوارون تحت عنوانٍ عريض، أنَّ فاقد الشيء لا يعطيه. 

theme::common.loader_icon