بول فاليري.. بين الفانتازيا والغموض
بول فاليري.. بين الفانتازيا والغموض
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Monday, 06-May-2019 07:13
المذهب الرمزي في الكتابة، والذي يناهض مذهب البرناسية، ويدفع بالشاعر إلى الإستعانة بالعالم الخارجي لتنقية العالم الداخلي في قلب الإنسان، له دلالاتٌ خاصة في قصائد الشاعر بول فاليري.

تأثر فاليري ربما بالشاعر شارل بودلير، الذي رحل شاباً في عزّ عطائه، وله ديوانٌ شهير بعنوان «أزهار الشر»، والشاعر الإنكليزي وليم بلايك الذي ألّف قصيدة قصصية رمزية بسيطة زاخرة بالنبوءات.

ولد بول فاليري قرب ميناءٍ صغير، ومن هنا أتت علاقته بالبحر شاسعة متوهّجة، تشهدُ على الحواجز البحرية والأرصفة وغيرها. هذا الإمتداد بين البحر وروحه، قد أثرى قلمه والمشهد البحري نفسه في شعره بات إثارة حسيّة، تشبه إقلاعَ السفن من ضفّة إلى أخرى، وتلويح اليد بالمنديل الذي قد يشبّهه بعض الشعراء بهيئة الوداع الأليم.

هذا الإطارُ المزدوج يجعل الشاعر ينفصل عن نفسه، ليرمقَ حركة تلك السفن المغادرة نحو أفق المجهول بِوَله، ويجمّل المحسوسات ويهمل الملموسات لتحليقه بعيداً.

التأثير الخارجي

التأثير الخارجي يفرز النصوص الملتوية بأسلوبها غير المباشر لفاليري، فنراه يتخبّط بعالم الفانتازيا ويلجُ عتبةَ التعبير مرتاحاً، يستجيبُ للتدرّج اللفظي بأسلوبٍ مدروس ودرايةٍ كاملة.

يشدّد فاليري على فكرة عيشه في عزلةٍ وانفصالٍ عن الزمن. ويتكبّد تلك العزلة بارتياح لأنَّ كتاباته تتدرّج بلون المعاناة، فتحدثُ انعكاساً عكسيّاً وتُسعد الآخرين، ما يؤسّس لامبراطورية الروح حسب رأيه.

وهو في كتابته يغلب المادة ويعتبرها أساسَ الهندسة الشعرية، وقد يفصح عمّا يعجز المذهب الطبيعي في الإفصاح عنه.

الرمز والأسطورة

وقد ركّز على الكثافة في استخدام الرمز والأسطورة في كتاباته، وحرّر قصيدته بخيالٍ جامح وغموضٍ ساطع، فأتت كالبلّور تنضحُ بما في كأس المساء من تغنٍّ بالقمر والورد وخصوصاً البحر الذي لعب دوراً بارزاً في صقل خيال الشاعر.

في قصيدته «البارك الشابة» يقول: العظيم العنقود يأتلق الآن لشوقي نحو امتصاص البلاءيا نجوماً غريبةً ذات حولٍ لا يجارى ولا مفرّ لرائي أنا لا أدري أيّ صفوٍ رحيب، أيّ شيءٍ محجّبٍ علوي ترتضين انبلاجه يتهادى في البعيد المدلّل الزمني.

الإقتران بالمجاز عند فاليري لا يخلق الصور الشعرية عنده عن عدم، بل بالعكس، فهي تقترنُ بالفلسفة والبحث والتأويل، بحيث يبرز دلالاتٍ فنية وشعرية هامّة في شعره.

سعيد عقل

ومن أبرز مَن تأثر بمدرسة بول فاليري هو سعيد عقل الذي عشق تلك الرمزية الروحية وأتقنها في عددٍ من قصائده وأبرزها عندما قال: الليلُ والدنيا ريب.. تقولها تنزّلت عذراء عن واحة رب... وهذه الشمس التي تغيب تغوي تغتصب.. رمّانة تفلّجت أو قلب عذراء انعطب.

هذا الرمز الفاليري الذي يوحي بالحالة ولا يصرّح بها هو من أصعب الفنون الشعرية، لأنّه يتدرّج في التعبير ويتأنّى في الوصول إلى آخر المنتهى ويبتعد من أسلوب الخطاب والحوار والتحليل الصريح، وقد فتح فاليري شقّ الحداثة الرمزية من أوسع أبوابه، بعد أن كانت الكلاسيكية الرمزية شديدة الوضوح في تعبير الشعراء أمثال فيرلين. ولكنّ فاليري اعتمد شدّة الإيجاز من أجل إنجاز الجمل المكثفة باقترابه من الموسيقى الخفيفة والفن الإنطباعي والإنثروبولجي.

بول فاليري كاتبٌ عريق تتلمذ على يديه شعراءٌ بارزون، آمنوا بتطويره ونظرته للرمزية، ناهلاً من معطيات الحسّ وسيلةً للتفريغ عن شحنة العواطف المتأجّجة في داخله، سالكاً أسلوبَ الغمز والومض والإشارات الخفيّة التي تجذب القارئ وتأخذه في رحلةٍ أسطورية غامضة، مثلما فعل الشاعر رامبو قديماً، مع الأخذ بعين الاعتبار علاقة فاليري بالبحر الذي يشكّل بحدّ ذاته تقلّباتٍ مزاجية واحتمالاتٍ لامرئية كثيرة، في رؤيا ضبابية لا تنقشع إلّا بعد تسليم الكاتب لآخر مشاعره في قبضة الشعر والحدث التخميني فيه.

theme::common.loader_icon