«نداء الوقواق».. اختصارٌ لرباعيّة كاتب الصحارى
«نداء الوقواق».. اختصارٌ لرباعيّة كاتب الصحارى
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Friday, 19-Apr-2019 06:49
المزجُ المثالي بين الواقع والأسطورة الخيالية، هو أبرز ما يميّز روايات ابراهيم الكوني، إذ يستمدّ مادة الميثولوجيا من الصحراء، والفانتازيا من رمالها المتحرّكة، والواقعية البحتة من التاريخ الأليم الحافل، الذي مرّت به أحداثها.

في الجزء الرابع والأخير من رباعيته «الخسوف»، والذي يحمل عنوان «نداء الوقواق»، يقتحم الكوني عالم الثورة والسحر والشعوذة، والتخاريف والهذيان الذي قد تسبّبه الشيخوخة، والظلم الذي يأتي نتيجة استسلامٍ كلّيٍّ أو جزئيٍّ للظالم، ويستعرضُ عنصري الخير والشر، القوة والضعف، النور والظلام، تحت جناح الواحات والعالم الرملي المتحرّك الذي يبتلع أشخاصاً كثراً في سياق الرواية.

الشيخ غوما
الشيخ غوما، هو البطل الرباعي لرباعية الكوني، وهو الشيخ الحكيم الذي يرأس القبيلة، التي تواري سوءتها في ترابِ حكمته دائماً، فهو المرجع والدليل والمفتي لأفعالها. تبدأ المشكلة معه عندما يتطرّق ذهنه إلى تصوّراتٍ بصرية غريبة، كأن يرى ذبابة خضراء مع سربٍ من النمل تقتحمُ الفضاء المتجلّي أمامه، فيدهمه العجب وتلجمه الدهشة، ويخاله الجميع فَقَد عقله. فيقرّر أن يتولّى «آهر» المشيخة، ويتنازل له عنها، ولكنّه يُصاب بابتلاء كبير عندما يُسجن حفيده «آيس» بعد ثورته على عنف السلطات الليبية مع الطلاب، احتجاجاً على القواعد الأجنبية للاحتلال الإيطالي، وقتلها للثائرين الأبرياء، ويشي به وبصديقه عيّاش الدوس الذي يقتل لاحقاً، صديقُهما فضل الله درهوب وهو حفيد آهر. وهنا يلمّح الكوني بأنّ التاريخ يكرّر نفسه مع الأجيال اللاحقة.

نموذج ليبي للقمع
ينتقل الكوني إلى قصة «آجار»، وهو نموذجٌ ليبي للقمع والإذلال الطلياني للمواطنين، فقد خال سكان الواحات بأنّ الغزو الإيطالي لن يزحف نحوها، ولكنهم حضروا ببنادقهم وعلى رأسهم الكابتن بورديللو الإيطالي الذي يحلم بالتوسّع والإنتشار، وتجميع أكبر عدد من الصحراويين الليبيّين، لاستغلالهم في غزو الحبشة. رفض آجار الإلتحاق بالتجنيد رغم التعذيب والتنكيل به، وصمد وثار عليه مستنجداً بأصدقائه المجنّدين بالقوة، حتى حكمت السلطات الإيطالية على بورديللو بالسجن. ولكنّه استطاع أن يُقنع المسؤولين ببراءته وعاد لينتقم من آجار، وقد جمع الكثير من الجنود الزنوج، لتنفيذ مخطّطه. فتنتحرُ زوجة آجار بعد تعرّضها للتحرّش من قبلهم، ويقوم بورديللو بإرغامه على شرب الكحول حتى الثمالة التامة، ويجبره على قتل أمه ببندقيته بعد أن يغطي وجهها، ويوهمه بأنّها من الزنوج الذين يريدون الفتك به.

الفجيعة
يستيقظ آجار على الفجيعة المؤلمة، ومن يومها يهيم في الواحات مثل البائس الدرويش، تلاحقه لعنة قتل الأم، وقد سنحت له الفرصة بالانتقام عندما أتى موري، الشاب الإيطالي للبحث عن الكنوز في واحاتهم وسرقتها بالاتفاق مع الحاكم، فيقوم بقتله لاحقاً وبحرق جثته، ممّا يدفع غوما إلى الغضب منه، فُيقدم الأول على الإنتحار، ورغم اتهام الكثيرين له بالزندقة لإرهاق روحه التي وهبها له الله، إلّا أنّ غوما يكتشف بأنّ جثته مثل جثّة القدّيسين لا تتحلّل، ويفتح القبر كلّ يوم من تلقاء يومه، لتفوح رائحة العطر والمسك منها.

وقد أصيب غوما بالخيبة مرتين، الأولى جرّاء انتحار صديقه الشيخ خليل مع زوجته إثر إصابته بالمرض الخبيث والسل، حيث لم يعد يستطيع كبت آلامه وتحمّلها، والثانية عندما انتحر آجار الذي تعرّض للظلم الفاحش ما لا تتحمّله الجبال.

لا شك أنّ الحكومة تستهيب غوما وتأخذ بعين الإعتبار ما يستطيع أن يفعله إن تحرّك غضبه، ولهذا يحاول الحكمدار أن يستجيب لطلباته، ويسعى للحدّ من المعاملة السافرة التي تُغرق بها الحكومة الليبية مواطنيها المتمرّدين على الإحتلال، وفي النهاية يتحرّك غوما ويجمع أتباعه من المناطق الصحراوية وينظّم لثورة هائلة، ولكنه لا يستطيع أن يكمل معهم الطريق لأنّ الموت يأخذه على حين غفلة، في نفس اليوم الذي تأتي رسالة من الحكومة إلى الثوار بالتسليم والإستسلام لطلباتهم، وهو من تأثير وإصرار غوما الشيخ المثالي الحكيم الذي لعب الدور البطولي في جميع الأجزاء الأربعة.

مبالغة
ابراهيم الكوني، رغم المغزى المتوقّد في «نداء الوقواق»، لم يستطع أن يتحكّم باللغة كعادته في رواياته، إذ أنّ اللغة الصحراوية الملازمة لقلمه تخذله في تسلسل السرد، ونلمح تكراراً للجمل المجازية والصور الوصفية، خصوصاً في مناظر الغروب والشروق، مستعيناً بمخيّلته النافذة لتسريب المشاهد حيّة إلى ذهن القارئ، ولكنّ المبالغة والأسلوب المرهق الشاق اللذين يتّبعهما، إنعكسا سلبيّاً على مخيّلة المتلقي، فلا يثبت على أعمدة الحبكة بشكلٍ محكم، رغم أنّ فكرة الرواية جميلة وهادفة، ولكنّ الإرتحال الفوري في الواحات، والذي يجيده الكاتب باتقان، حتى لُقّب براوي الصحارى، لم يكن مصطحباً له هذه المرة.

theme::common.loader_icon