«العسكري الأسود»: خطٌّ عريض لساديّة الحرب النفسيّة
«العسكري الأسود»: خطٌّ عريض لساديّة الحرب النفسيّة
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Saturday, 09-Mar-2019 06:58
التلذّذ بآلام الآخرين والتنكيل بهم جسدياً ونفسياً، عقدة نفسية سحيقة الأغوار ربما تعود لأزمات إنسانية مرَّ بها الشخص المعذِّب لغيره. هذه السادية التي تنبع من تراكماتٍ إجتماعية وسوسيولوجية تنهمرُ من ثقوب النفس التي غمّست بالسواد الأعظم، قد تكون المحرّك الأساس لمشكلات متفاقمة تتفشّى في المجتمع، فتحيل الصالح إلى الطالح وتقضي على الأواصر الثابتة لهيكل المجتمعات البشرية.

تدور رواية «العسكري الأسود» ليوسف إدريس حول «عباس الزنفلي» المارد المتوحش الجاثم في بهيم الليل لينقضّ على ضحاياه، وهو وحش التعذيب الساخن المرير في المعتقلات السياسية في مصر بين عامي 1947 و1948.

الدكتور شوقي

وقد كان من ضحايا هذا التعذيب الوحشي السادي صديق الراوي «الدكتور شوقي» وهو تلميذٌ في كليّة الطب اشتهر بحسّه الوطني الصادق، وكان منتمياً لجماعة الإخوان المسلمين، وقد دخل السجن بحماسة متقّدة وروحٍ عالية وهمّة يُحسد عليها، وخرج منه خابي الملامح والنظرات، متجرّعاً لكؤوس السمّ الزعاف الذي انشقَّ عن صدر الغضب الدامي الذي تفجّر في صدر العسكري الأسود عباس وهو ينكّل به أشدّ التنكيل ويُلحقه من العذاب ألواناً، ويحفر في أغواره جرحاً ماورائياً ينسدل كغراب البين، يجعله يؤثر الرذيلة على الفضيلة التي نشأ عليها، وكأنّ الحقد الأعمى قد ألقى ظلاله بين السجان والمسجون فاستحالا توأماً للشرّ المستطير.

سرّ التغيّر

عبثاً ينقّب الكاتب عن سرّ تغيّر صديقه الذي تدرّج في علمه وأصبح طبيباً شهيراً، يدرك بأنّه أصبح مرابياً للأحداث مستغلّاً للفرص، لا يكترث للصواب ويرحّب بكلّ طريقة غير شرعية لكي يجني مالاً، أما انجرافه للهوّة السحيقة التي ترفل بتلابيب الظلام فلم يستطع أن يجد له تفسيراً، فكيف ينقلب الملاك إلى شيطانٍ آثمٍ في مدّة يسيرة، ويؤثر جوف الليل المفرط في الظلام على توهّج النور في عين الشمس؟

يأتي الجواب طيّعاً للكاتب عندما يذهب مع صديقه شوقي بناءً على طلب من زوجة عباس لمعاينته من حالاتٍ هستيرية تنتابه، فإذا بهم يواجهون وحشاً كسيراً يقتات من نهش لحوم الآخرين، فلم يكد يراهم حتى همّ بأن يعضّهم مصدراً أصواتاً أشبه بالعواء المخيف الذي ترتجّ له حنجرة الصدى.

تلك السادية التي غمرت عباس بأعطافها في الماضي تعود لتحتلّ صدارة قلب شوقي الذي يتلذّذ بالإنتقام من الرجل الذي قضى على فطريّته القومية، وهشّم جدران روحه الثائرة، فنراه يتأمله من دون رحمة وهو يصدر أصواتاً وحشية شبيهة بالتي تلقّاها منه إبان سجنه في الماضي.

إنتقام لا إرادي

هنا الإنتقام اللاإرادي الذي يلعب دوره بين الجلاد والضحية، وفي مقطعٍ تعبيري في سياق الرواية يصف شوقي ما مرَّ به ببلاغة واضحة فيقول: «هناك تجرّب الإحساس الحقيقي بالضرب، بألم الضرب، لا مجرد الألم الموضعي للضربة أو الألم الناتج عنها، إنما بألم آخر مصاحب أبشع.. أقوى، ألم الإهانة، حين تحسّ أنّ كل ضربة توجَّه إلى جزء من جسدك توجِّه ضربة أخرى إلى كيانك كله، إلى إحساسك وكرامتك كإنسان. ضربة ألمُها مبرح، لأنها تصيب نفسك من الداخل إصابة مباشرة، وهكذا في مقابل كل ضربة هائلة الألم عارمة القسوة مهينة تتلقاها من الخارج تنهال عليك من داخلك وذات نفسك ألف لعنة، ألف طعنة، ألف إحساس مخجل مهين تمزّق أحشاءك وتذيب كماء النار كرامتك، لأنك لا تموت ولا تريد الموت ولا تزال حيّاً تتمسّك ذليلاً بالحياة».

قلم كالمقصلة

يوسف إدريس صاحب رواية «الحرام» الذي يسنّ قلمه مقصلة يقطع بها رؤوس الإقطاعية والرأسمالية والإنبهار الخاطف لسياسيّي العصر المراوغين، يترجم ثورته المكنونة في صدرٍ يتأجّج بالغضب من خلال رواياته التي تعاصر كلّ عصر وزمان، متجنّباً فوضى الكلام المبعثر، مركّزاً على هدف التنوير الفكري، فنراه يهذي مع أبطاله ويرقص فرحاً معهم، ويبكي مستطيراً من أشجانهم الحافلة بالجراح المثخنة ألماً وهلعاً.

وكعادته، يعبّر في حبكة الرواية بمجذافين من فولاذ، لا تجاوز للحدث ولا تعدّي على مفهوم السرد المباشر أو غير المباشر.

رواية «العسكري الأسود» ترجمة حقيقية لمعنى الساديزم في الحرب النفسية التي تحتلّ جانباً هامّاً جدّاً في الحروب العسكرية، لأنّها تلعب دور القمع المجحف بحقّ الثائرين من بني الأمة.

theme::common.loader_icon