ما بدنا أوسكار!
ما بدنا أوسكار!
جوزف طوق
جريدة الجمهورية
Tuesday, 26-Feb-2019 10:28

المرأة في بلدي يمكن أن تُسجن مع بطش زوجها لعشرات السنوات خلف أبواب واجباتها العائلية، ولا تجد قانوناً يرافع عن أمومتها. في بلدي يمكن أن تتزوّج البنات بعمر أصغر من الورد ولا تجد من يمنع اغتصاب طفولتها. في بلدي أيضاً، يمكن لأي كان أن يجيّش مهرجانات التكريم للاحتفاء به من أول دور تمثيلي أو من أول إطلالة إعلامية. في بلدي جميع الفنانين والمطربين هم الرقم واحد، وكل أغنياتهم تكسّر الأرقام وتحتلّ الصدارة.

في بلدي أي مادة تصويرية لمجرّد عرضها في صالات السينما تصبح عملاً سينمائياً وتضيق بحجوزاتها شبابيك التذاكر، ويصبح العاملون فيها أعزّ الأصحاب مع أنطوني كوين... في بلدي يغيب منطق النقد بشكل شبه تام، والجميع يتلذّذ بالتبجيل على مساحة محسوبياته وقصر نظره.

في بلدي أيضاً، وللمفارقة، تظهر كل عام بطلة من هنا وبطل من هناك يفتحون عين العالم العمياء على إبداعاتنا وتفرّدنا وقدرتنا على الخلق والإختراق والتميّز في كثير من المجالات، تماماً مثلما فعلت المخرجة نادين لبكي في الحفل 91 لجوائز الأوسكار بفيلمها «كفر ناحوم»، الذي لامس قلوب نجوم هوليوود حتى قبل المسابقة، وحظي بإجماع محلّي وعالمي على شغله المحترف ورسالته الدسمة في زمن اللامبالاة الإنسانية تجاه أكوام المآسي التي ترسو كل يوم على شاطئ ما في العالم، أو تنزوي تحت مباني العواصم الشاهقة.

الذي حصل في 24 شباط 2019 أكبر بكثير من أوسكار. فنادين لبكي لم تفز بالجائزة المذّهبة ولم تعد بها إلى لبنان، لكنها فازت بإعجاب الملايين وستعود وفي شنطتها إهتمام عالمي بصناعة السينما اللبنانية التي تنافس بمحرّكها البخاري عمالقة يمتطون صواريخ فضائية.

«كفر ناحوم» اللبناني المتواضع نافس فيلم «Roma» المدهش لألفونسو كوارون المرشّح عن 10 فئات في الأوسكار، و»Shoplifters» للياباني كوري-ايدا هيروكازو الفائز بسعفة «كان» الذهبية، والفيلم البولندي «Cold War» المرشّح عن 3 فئات في المسابقة. نادين لبكي لم ترفع تمثال الأوسكار عالياً مثل ما كنّا نتمنّى، لكنها رفعت إسم لبنان أعلى بكثير، وقالت للعالم أجمع أنه مهما سمعوا عن لبنان من أخبار محزنة، ومهما شاهدوا عن لبنان من صوَر وفيديوهات مؤلمة، تبقى هذه المساحة الجغرافية قادرة على إبهاركم بالجمال الذي تخلقه من عدم.

نحن لا نحتاج إلى أوسكار، نحن لا نريد أوسكاراً، نحن نحتاج فقط إلى أشخاص يكرّسون حياتهم وأعمالهم وموهبتهم، ليس ليفوزوا منفردين، بل ليمنحوا الفوز لشعب بكامله ووطن موجوع من عقليات حاكمة مريضة.

في هذا البلد الذي يعاني من الذكورية والظلم بحق المرأة والأطفال والعجزة، رهن زوج إسمه خالد مزنّر منزله حتى يتمكّن من المساهمة في إنتاج حلم زوجته نادين لبكي، وأمضى معها 3 سنوات في الشارع وفي المناطق المحرومة يبحث معها عن صوت وصورة لفقر يغتصب عائلات وأحياء وشوارع، وظلم يسرق أحلام وأجساد وأخلاق أهل وأولاد.

نادين لبكي حَلمت وأنجزت ونافست ووصلت، وانتهى الحفل ووُزعّت الجوائز وأُسدلت الستارة وعادت البزّات السوداء والفساتين الفاخرة إلى منازلها، وسكت الحماس الإعلامي وبقيت عائلات «كفر ناحوم» تبحث عن ماء لبلّ الحليب الناشف في المجامع، وبقي أطفاله الحفاة يركضون خلف ومضة سعادة هاربة في الشارع، وبقيت الأثداء المليئة بالحليب بعيدة من أفواه تطلبها لانشغالها بتأمين لقمة عيش...

وفي بلدي بقي الفنانون يصطادون إبداعاتهم لإبهار العالم، وبقيت مخرجة لبنانية إسمها نادين لبكي تبحث عن قصّة لفيلم جديد يفتح العيون الشاردة على الواقع الذي نعيش فيه. وبقينا نحن ننتظر مولوداً فنيّاً جديداً يهرول للمنافسة على الأوسكار والمهرجانات العالمية.

theme::common.loader_icon