«الشيخ والبحر».. حكاية تشبه صبرَ الأنبياء
«الشيخ والبحر».. حكاية تشبه صبرَ الأنبياء
اخبار مباشرة
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Monday, 05-Nov-2018 07:25
تدور الحبكة برمّتها حول صيّادٍ يصطاد سمكة!.. هكذا يتفاقم الوضع في تسلسل الأحداث وتطبيقها من الحدث الأوّلي وحتى الحدث النهائي في رواية «الشيخ والبحر» للكاتب الأميركي أرنست همنغواي.

الحكاية قد يظنّها البعض بسيطة ومملّة ورتيبة، ولكنّ أنفاس القارئ تتسارع بالتشويق والإثارة والانضباط التام لسير السرد وهو يبحر مع هذا العجوز الذي يدعى سانتياغو، والذي لم يحالفه الحظ لشهور في اصطياد السمك ولكنه واتاه في فجرٍ رائقٍ يسيلُ ندفاً من الغيم الأبيض، بعد أن أبحر في قاربٍ صغير يجذف وحيداً في أعماق البحر لتتلقّف شبكته سمكة عملاقة، يحاول بعد ليالٍ مضنية طويلة قضاها بين المدّ والجزر أن يسحبها إلى القارب ولكنه يفشل كثيراً ويتخاذل أكثر ثم يقف على قدميه مجدّداً ويجدّد إرادته ويحيي عزمَه مصمِّماً على بلوغ هدفه المنشود.

حتى يعود أخيراً إلى الشاطئ وبرفقته السمكة العملاقة وقد أصبحت هيكلاً عظميّاً بعد أن أكل لحمها حيتانُ البحر إذ جذبتهم اليها رائحة الدم. ولكنه يحسّ في قرارة نفسه بأنّه انتصر بمجرّد أن نجح في أن يصطحب تلك السمكة الضخمة لتصبح فرجةً للعابرين ومحطَّ إعجاب السائحين، ودليلاً على نجاحه.

مسيرة عمر

العبرة لا تكمن في عزيمة الصياد أو حجم السمكة، لأنّ الروائي الأميركي قد اختصر مسيرة عمرٍ بأكمله للإنسان في رحلة الصياد.

فالكتاب عبارة عن مغامرة ظاهرة ولكنه مسرحٌ كبيرٌ لمشاهد تصويرية مؤثّرة تشمل الإنسانية بكلّ وجوهها، حيث التخاذل والعصيان والتمرّد والثورة ومحاسبة النفس ومكافأتها والجنوح للحرّية ثم التبعية والتطاول على التغيير ثم التأقلم معه حتى يبلغ الفرد غايته بعد زوال الأنفاس فيعود بحلمٍ لم يتحقّق إلّا ظاهرُه لأنّ الحياة التي تشمل كلّ المسرّات والعراقيل والآلام لا يمكن أن تعطيه كلّ ما يتمنّاه.

جائزة نوبل

لقد وردت في الكتب المقدّسة حكايةُ الصبر لدى الأنبياء والمرسلين، وما ألمّ بهم من العقبات والحسرات ولكنهم تمسّكوا بحبال الصبر والإيمان.

هذه الرسالة نفسها التي وضعها أرنست همغواي في روايته وبفضلها نال جائزة النوبل لما تمثّله من نوازع الإنسان للخير والشر والتصارع السيكولوجي الذاتي في تقدير أموره، بالإضافة إلى أنّ الرواية نفسها كانت مدخلاً للتنوير الروائي الحديث في فنّ السرد، وتمرّداً بسمات الإبداع في تفعيل الخبر قبل المكان والزمان، وتحوير الحوار إلى الذاتي، فينشأ حوارٌ ذاتي بين الصياد ونفسه وكأنّ المكان يحفل بعدة شخصيات رئيسة مع أنّ البطل واحدٌ أو بالأحرى إثنان لأنّ السمكة تماثل الصياد رهبةً وقوّةً وتمنّعاً للإستسلام وتلعب معه على حبال الحبكة دون أن تُحدث فيها أيّ خلل.

نهضة عصرية

الرواية نهضة عصرية واختصار تام لكلّ الحروب والآهات والإنطواء والإنكفاء الفردي والغيري والإرادة التي تُحقّق المعجزات. وقد حقّقت نجاحاً هائلاً بين القراء من كافة أنحاء العالم واعتُمِدَت في المدارس والجامعات، وأخذت طريقها إلى مكافحة الروتين الأدبي وتدوير الحبكة حسب حاجة الحدث وليس وفقاً للأصول التقليدية المتّبعة في عالم الرواية الكلاسيكية.

أرنست همنغواي كاتبٌ قضى انتحاراً حين أطلق الرصاص على نفسه، رغم تحلّي بطله سانتياغو بالصبر الطويل في روايته الخالدة «الشيخ والبحر»، وهذا يثبت النظرية القائلة بأنّ الكاتب مستقلٌ عن أبطاله في رواياته وأنهم هم مَن يحركونه ويقرّرون مصيرَهم ونهايتَهم وليس العكس، بالإختصار إنّ الكاتب مسيّرٌ وليس مخيّراً وأنّ التلقائية في السرد هي مفتاح النجاح والتفوّق. 

theme::common.loader_icon