

ما تضمّهُ علبة الروايةِ من الحيَل التعبيرية والثيمات المُخاتلة التي يحدّدُها عبدالرزاق مصباحي، في إلتباس مفهوم الذات وتحوّلات الهامش إلى المركز، توفّر فرصاً لمراوغة على المواضعات الإجتماعية والسياسية والإيكليروسية، كما أنّ هذا الفنّ قد يكونُ وسيطاً حاملاً للتعدّدية الثقافية والفكرية على حدِّ قول الكاتبة والروائية العراقية لطيفة الدليمي، فالبتّالي تَتَجاوزُ أداة السردِ حدود التمايزات الفئوية والنخبوية بما تتناولهُ من شتى الموضوعات المرتبطة بواقع الإنسان وأسئلته المصيرية وهواجسه بشأنِ المعطيات الوجودية وردّات فعله تجاه المُحدّدات المُؤثّرة على خياراته. كلّ ذلك يتحوّلُ إلى ثيماتٍ جوهرية في الأعمال الروائية.
ومن جانبها فضّلت الروائية السعودية أمل الحربي مقاربة موضوع يكون نواةً لمناقشة قضايا شائكة وحساسة في روايتها الموسومة بـ»فعلاّ»، الصادرة أخيراً عن دار مسكيلياني - تونس.
وإنْ كانت الكاتبة تتفادي الإسهابَ في الحديث عن بعض الظواهر المثيرة، وتختار التلميحَ بدلاً من أسلوب المُباشر والإلتفاف على ما يتطلّبُ الوضوح، لكنّ ذلك لايمنع المتلقّي من فهمِ رسائل النصّ المحمّل ببذور السخط على كلّ الأنساق والأنظمة والكليشيهات المتداوَلة في أطر العلاقات الإجتماعية، إلى حدّ تظهر الشخصية الأساسية منيرةً بصورة مُغايرة إذ تنزعُ منها المؤلفةُ المواصفات التي تتميزُ بها الشخصيات النسائية في الروايات الأخرى.
ضد البطولة
يأخذُ السردُ منحىً ذاتياً في الرواية وتُسنَدُ مهمة السرد إلى الشخصية الأساسية «منيرة»، التي تروي بلغةٍ موحية برغبة الإنفصال عن واقعها الإجتماعي، تجربة إدمانها على المُخدرات كما تُعبرُ عن سئمها الشديد من الأجواء المشبعة بالوعظ والإرشاد، وهي مرغمة على المشاركة فيها دونَ أن تُعلن موقفها الرافض بالوضوح كون الشخصية من النمط الذي لا تهمّهُ الظروف الخارجية ولاتداعبه أحلام الثورة ضد الإكراهات. وترى البطلة الضد غارقة في عالمها تُحاولُ أن تتغيّبَ أكثر عن الزمن بقتل أيامها متوقعة بأنّ القتل سيكون مشروعاً لذا تريد كتابة لائحة بأسماء مَن تقتلهُم. تنزوي منيرة في غرفتها التي يجثمُ عليها شبح الإكتئاب والسوريالية وهي ترقصُ وتصلّي في الوقت نفسه وتُتمتِمُ بالأدعية وتعاني حالة الإنشطار وينتهى بها الأمرُ إلى رغبة التقويض لمكوّنات غرفتها وإتلاف الكتب ومن ثُمَّ تقفُ أمام المرآة المُتشظية. وبعدما يمضي وقت على غيبوبتها الموقتة وتستعيد الوعي تبدأُ بلملمة الأغراض لكنْ رغبة النزول إلى العتمة تحدو بها إلى قطع وريدها. وبهذا تنتقلُ حياةُ منيرة إلى مرحلة جديدة فمحاولة إنتحارها الفاشلة تكشفُ عمّا كان مستوراً ويصطدمُ الأهلُ بواقع منيرة وتهاويها في مستقنع الإدمان الذي يجلبُ لهم العار، فهؤلاء لم يعترفوا بوجود خلل في دماغ الإبنة وتجاهلهم لهذه الحقيقة وضعهم أمام واقع أكثر مرارةً. موقف أبانَّ عن مشكلة متجذّرة في المنظومة العقلية التي لا تسبقُ مرحلة تفاقم الأزمة وتداعياتها بإيجاد حلول مناسبة ومعالجتها في أطوارها البدائية.
ثقافة التجاهل
وما يؤكدُ وجود ثقافة التجاهل هو عدم توفير المصحّات والمستوصفات الخاصة بالمدمنين، ما يحتّمُ إنتقال المصابة إلى القاهرة إذ تتراوحُ صحة منيرة بين التحسّن والإنتكاسة هناك، وكلما تحلق شعرها فذلك يعني أقربُ إلى الجنون غير أنَّ في مصر تتعرّفُ إلى شخصيات أخرى منها مضاوي إبنة بلدها ونور وعبير وياسمين التي تنتحر، كما تستمرُ لقاءاتها بالدكتور حمدي.
تنقلُ الراوية مناخَ المصحّة وتصفُ تركيبة الشخصيات خصوصاً على المستوى الخارجي، مُستيعدةً في سياق سردها مراحل المعالجة وبرامج المُكاشفة لبدايات الإدمان وما مكنَّ المدمن من الإقلاع عنه. إضافة إلى ذلك تفصحُ عمّا تصلُ إليه عقب معاودة النوبات إذ تَفقدُ شعورها وإدراكها بجسدها وتصبحُ مغتربة بكينونتها. تُفارق منيرة البيئة التي تآنست بها عقب قيام الثورة المصرية وانطلاق المُظاهرات فتعودُ إلى بلدها السعودية، غير أنَّ إقامتها هناك لا تطول نتيجة تردّي حالتها وتُسافر إلى أميركا حيثُ تتلقّى المعالجة في مصحّة وتدرك خصوصية الثقافة الأميركية كما يتضحُ لها مستوى فهم الأميركيين للمجتمعات العربية، إذ تسمعُ من أحد المقيمين في المصحّة ما يشي بوجود النظرة النمطية عن حياة النساء في البيئات الخليجية. كما أنّ حياة البذخ في تلك المُجتمعات تثير غيظ الفرد الأميركي. إلى جانب منيرة يوجد عدد من النساء الخليجيات في المجتمع الأميركي منها نداء الكويتية وهي مصابة أيضاً بالإدمان كما أنّ هيفاء أيضاً هربت إلى أميركا حاملةً جروح حبها. على الرغم من استجابة منيرة لمراحل العلاج في المصحّة الأميركية وإعادة تأهليها إلى درجة سُمح لها بالإنتقال بين أماكن عدة وزيارة مدن أخرى، لكنّ خطواتها على درب الإستشفاء لا تكتمل وتنتكسُ حالتها عندما تعاقر الخمر وتصبح نديمَ المخدرين. تكمنُ أهمية هذه الرواية أنها صنيعة قلم إمرأة أظهرت ماهو متوارٍٍ في بعض المجتمعات وأبدت جرأةً كبيرة في مقاربة موضوع حسّاس إذ من المتوقع أن يسقطَ القارئ ما يتابعه من محتويات الرواية على حياة المؤلّفة، خصوصاً أنَّ اسمَها يكونُ عنواناً لأحد أقسام الرواية. يلاحَظُ في بناء هذا العمل إهتمام الكاتبة بمستويات اللغة حيثُ تتقاسمُ اللهجة الخليجية والمصرية المقاطع الحوارية ويكونُ السردُ بلغة الفصحى. إذا كان الإنطباع السائد في بداية الرواية يرجّحُ بأنَّ الشخصية الأساسية لجأت إلى المخدرات إحتجاجاً على الظروف الإجتماعية المسيّجة بالممنوعات فإنَّ النتيجة التي نتوصل إليها تؤكدُ بأنّ الإدمان موقفٌ وجودي يعبّرُ عن العدميّة والاستخفاف بالبطولات.
نجحت المؤلفة في تحبيك مادتها السردية وترتيبها في وحدات متتالية، وما تراهن عليه صاحبة العمل لإضفاء التشويق إلى الأحداث هو ترقبك لما سيؤول إليه مصير منيرة القادمة من بيئة مُحافظة، واستبطان دواخل شخصيّتها والصراع بين رغبة للعودة إلى حياة طبيعية، وما يدفع بها نحو نفق الإدمان أكثر.








