الإدارة ونحن (3): الدواء في دائرة الفساد
الإدارة ونحن (3): الدواء في دائرة الفساد
د. ايلي الياس
جريدة الجمهورية
Saturday, 01-Dec-2012 00:02
فضيحة الادوية الفاسدة التي ظهرت منذ ايام، هي تأكيد حقيقي لما ذكرناه مرارا في شروحاتنا السابقة حول عمق الفساد والضياع الاداري في جسد الدولة اللبنانية. مسألة الادوية الفاسدة هي ابعد واعمق بكثير من مجرد فضيحة عادية، انها افعى بثلاثة رؤوس، وكلها مسلطة على صحة المرضى الابرياء.
المريض هو الضحية مرتين الاولى من الطبيعة والثانية من المفسدين في لبنان. ليتصوّر المواطن اللبناني كيف ان ذوي القلوب المتحجّرة والنفوس الدنيئة طالت ايديهم حتى الدواء الذي ينتظره المرضى راجين الشفاء! ولكن اللصوص همّهم الوحيد جمع المال، ولو كان ذلك على أنقاض صحة المرضى المعذبين.

جريمة الدواء الفاسد ما كانت لتحصل لو لم يكن هناك مجموعة فاسقة من موظفي الادارة في اكثر من جهة رسمية ذات الصلة بالموضوع. مرتكبو الجريمة ثلاثة: تاجر نهم فاقد الضمير والحس الانساني، وصيدلي عديم الوجدان المهني، وموظف رسمي ساقط من اية معايير اخلاقية. والاخير بالطبع هو الذي سهّل ارتكاب الجرم، ولولاه لما كان بالامكان لهكذا جريمة انسانية ان تُقترف في وضح النهار.

ولكن ايضا، هناك طرف واحد لم يُذكر لا سياسيا ولاقضائيا ولا اداريا ولا امنيا، انه الموظف الرسمي الاخلاقي الذي فضح امر اللصوص واعلن الجريمة للرأي العام. ولكن هذه هي الصورة الطبيعية اليومية في مجتمع لا اخلاقي يحتضن ادارات رسمية عامة غير مهنية وفاسدة. الموظف الذي يرتكب الجرم لا يحاسب ولا يعاقب. وفي الوقت نفسه الموظف الوجداني الاخلاقي لا يكافأ.

غريب أمر لبنان كيف ان قلّة سياسية - ادارية ترتكب عشرات الجرائم بحق شعبه كل يوم، تقابلها اكثرية شعبية مطلقة صامتة لا تحرّك ساكنا بحق أمنها وسلامها وصحتها وكرامتها! المواطن مصلوب معلّق كل يوم على خشبة السياسة الاعتباطية ومسمّر كل يوم بمسامير الادارة الفاسدة في رأسه ويديه وقدميه. هنيئا لهكذا مواطنية مستضعفة مشلعة تعيش تحت رحمة سلطة سياسية - ادارية خشبية لا تعرف المهنية ولا الاخلاق ولا الرحمة.

الى متى سيظل المواطن اللبناني كالزوج او كالزوجة المخدوعة؟ الى متى سوف يبقى المواطن اللبناني عاريا ومشردا امام رياح الطائفية والاقطاعية والفساد؟ هذه الريح العمياء التي تبقي المواطن المسكين في حالة قلق دائم وخوف مستمر على أمنه وصحته وزاده ومزوده؟

الى متى سيظل المجتمع اللبناني مبعدا ومنفياً عن العلم والمعرفة؟ "المجتمع معرفة والمعرفة قوة". الى متى سيبقى لبنان ضعيفا وهزيلا سياسيا واقتصاديا وحقوقيا وامنيا؟ متى سيخرج مواطننا من هذا النفق المظلم؟ متى سوف ينجلي هذا الليل الطويل؟

لقد غابت شمس لبنان منذ اليوم الذي حطم الفاتحون الغزاة فيه معبد "جوبيتر" إله الشمس، ولم تشرق ثانية بعد ذلك اليوم. هل ستشرق الشمس ثانية من وراء صنين العظيم ويعمّ نورها ودفأها تراب لبنان وشعبه؟

يمتلكني يقين وقناعة وجدانية بأن هذا الشعب المصلوب بطوائفه ومذاهبه سوف ينهض وسوف يسير على درب القيامة بخطوات واثقة ثابتة راسخة. وذلك عندما تفيق اجيالنا من عفوتها عن ذاتها وتعود الى حقيقة نفسيتها، وتتعرّف من جديد الى اصل شخصيتها ومزاياها، تلك الشخصية بأبعادها الثقافية والاجتماعية والاخلاقية والحقوقية، ساعتئذ تتهيأ اجيالنا لولادة الانسان الجديد.

من غير "الانسان الجديد" لن يكون لنا فكر سياسي جامع وصادق. من غير "الانسان الجديد" لن يكون قضاء عادل وشفاف ورحيم. من غير "الانسان الجديد" لن تكون خدمة مدنية نزيهة ومحترفة وعزيزة النفس.

من دون "الانسان الجديد" لن نصل الى اقتصاد سليم ومتصاعد. "الانسان الجديد" الذي نريده هو حجر الزاوية في الهيكل، وهو الفجر الآتي من خلف صنين العظيم، وهو البذرة الحية التي سيولد منها كل نبت صالح، وهو الينبوع المحيي الذي ستنبثق منه السواقي والجداول لتجعل لنا "كل شيء حي".

وهو الكرم الفسيح الذي سينبت لموطنه ولشعبه خبز الحياة ونور القيامة. من بين هذه الكلمات، اتوجه الى حضرة رئيس الجمهورية الجزيل الاحترام لأخذ المبادرة في اطلاق "العهد الجديد" للبنان... عهد "الانسان الجديد"... عهد النصر على الذات العتيقة المثقلة بالجهل والكراهية والفوضى والاهمال.
theme::common.loader_icon