«موسم الهجرة إلى الشمال» رواية سودانية تحت ظلال الإفرنج
«موسم الهجرة إلى الشمال» رواية سودانية تحت ظلال الإفرنج
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Tuesday, 24-Jul-2018 00:39
نجد الروائي الطيب صالح، كعادته، منغمساً في بيئته حدّ التجزئة الضمنية للنفس والروح معاً، فيتصبّب قلمه رذاذ ألم حيوي مستمدّ من جذور أرضه، ويرشح جبينه بالقمع تحت ضوء قناديل تتراقصُ بالأمل اللامجدي.

في روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال»، التي ربّما أطلقت اسمه عالياً في عالم الرواية حسب اتفاق النقّاد الذين لا أوافقهم في الرأي لأنّها لا تختلف عن غيرها من روايات الطيب، من حيث التماهي في الحبكة حدّ نسيان التدرّج النسبي للأحداث، يتحدّى الكاتب بيئته ويخرج بقلمه وببطله من مكانه السرمدي في البيئة السودانية المنغلقة إلى متاهات جريئة في العالم الغربي.

الراوي بطل الرواية
الراوي بطل الرواية ليس بالشخصية الأساسية فيها، فهناك مصطفى سعيد والذي تتمحور حوله الرواية، ويعيش في قرية الرواي وهو غريبٌ عنها والأحرى أنه مولودٌ في الخرطوم، يدّعي أنه مجرد مزارع بسيط يتزوّج من أهل المكان الذي سكن فيه واستوطن في الزمان وشاركهم حياتهم، ولكنه كان يخفي سرّاً عظيماً اكتشفه راوي الحكاية.


لقد كان مصطفى طالباً سودانيّاً نابغة سافر إلى بريطانيا لينهي دراسته ويتزوج هناك بعد مغامرات مع نساء تشوّقن لشخصيته وذبن فيها حدّ أن قامت إحداهنّ بالإنتحار من أجله. وقد انتقم القدر لهنّ بأن وهبه زوجة حانقة دائمة التسلّط تفرض إرادتها مستغلّة حبّه لها، فتتبرّج للرجال أمامه من غير رادع وتسعى لإثارة غيرته حتى تدفعه لقتلها.


يمثل أمام المحكمة رافضاً الدفاع عن نفسه. يعود إلى الوطن لينسى ويختار له قرية جديدة ووجوهاً لا يعرفها بعد وفاة والديه في غربته، يوصي المتكلّم في الرواية أن لا يفضح أمره وشخصيته إلّا بعد وفاته.


ينتحر مصطفى وهذه مفارقة هامّة في سير الأحداث، فربما لم يتحمّل ضميره المرهق وزر الخطايا التي ارتكبها بسبب القتل الذي مارسه على مَن عرفهنّ سواءٌ مجازيّاً أم حقيقياً... يترك أولاده وزوجته يتخبّطون من دونه في يمٍّ متلاطم الموج متسمّرين بلوائح التقاليد البالية التي تحتّم على الأرملة أن تتزوج من بعد زوجها رجلاً مسنّاً كريهاً يحفظها ويرعى طلباتها رغم حبّها الفجائي لرواي القصة من بدايتها بعد موت زوجها والذي يأتي على غفلة واستغفال للقارئ.

وطبعاً تمقت زوجها بعد أن أجبرت عليه بكلّ جوارحها فتقتله وهو يهمّ باغتصابها.. ثم تقتل نفسها، أو يقتلها هو.. المهم أنّ السكين قد أُغمد في قلبها وماتت مع زوجها ميتة بشعة.


مضمون مفكّك
الرواية برمّتها عرجٌ على حدود الغرب ومزج الفوارق الطبقية والاجتماعية والبيئية مع عنوانٍ مغرٍ ينوّه بطيور الهجرة ورسوم الهجر وترانيم المواسم القاحلة. ولكنّ المضمون مفكّكٌ يشبه إلى حدٍّ ما رواية للطيب الصالح أيضاً بعنوان «ضو البيت».


قصة مصطفى سعيد ليست قصة غريبة ولا لآلئ مبطّنة في مغزاها، شاب نابغة يهاجر فيضيع وتتشابك عقد الشرق في هيكل روحه مع انفتاح الغرب فيمعن في التيه والغربة عن ذاته. والهجرة عن النفس موضوعٌ مكرّرٌ لا جديد فيه سوى أسلوب الطيب صالح في تداول الحدث واضفاء قيمة بصرية عليه. ولكن تبقى قيمته الفلسفية محدودة لا تلج حيّز التنافس الفكري بين الكتّاب الكبار الذين توغّلوا في سرّ المعنى ولواعج الأفكار النفسيّة والتخبّط الأقحواني الأنطولوجي أو علم تجريد الوجود الإنساني.


تجلّت شهرة الطيب الصالح بأنّه عالج آفات بيئته السودانية بأسلوبٍ واضح من غير تعتيم وتقليبٍ للمحور السردي، واستحسان النقاد بعمله أضرّه في حصر ذاته ضمن إطار روائي دائم لا يخرج عنه في كلّ رواياته. حيث تبدأ كل حكاية بغموض ومن ثمّ سرّ عظيم وبعدها امتعاض واحتقان يدفع بالحبكة للإهتزاز والتفكّك.

theme::common.loader_icon