الإدارة ونحن...النقل العام مؤشر حضاري مفقود (3)
الإدارة ونحن...النقل العام مؤشر حضاري مفقود (3)
د. ايلي الياس
جريدة الجمهورية
Saturday, 24-Nov-2012 00:12
النقل العام هو احد وجوه الوعي والرقي الاجتماعي والاقتصادي في مجتمعات العالم. وهو النظام عينه الذي يدعى «النقل المشترك» في لبنان.
اولى ايجابيات قطاع النقل الهام انه يتساوى فيه الناس بكل اطيافهم الاجتماعية والثقافية المادية، في الولايات المتحدة مثلا تجد فيه كل الوان اميركا وطبقاتها ووجوهها المهنية والثقافية. بالاضافة الى ذلك، من الصعب ان تجد سيارة نقل عام واحدة او قطار غير نظيف او غير مجهز بنظام تدفئة وتبريد. كما انه قد لا توجد محطة باص او قطار واحد دون ملجأ يقي الناس الثلج والمطر واشعة الشمس.

هذا بكل اسف غير متوفر في بلد "العلم والنور" لبنان!

ومن شديد الاسف ايضا ان القيمين على هذا القطاع الاقتصادي والاجتماعي الهام جدا يظنون ان قيمة وجوده تقتصر على دوره اللوجستي البسيط. اي نقل الناس من مكان الى آخر. أما مسألة النوعية في الخدمة، ومظاهره الداخلية والخارجية، ودقة مواعيد وصوله الى المحطات والامكنة، تفاصيل لا قيمة لها من وجهة نظر المسؤولين.

وطالما ان ركاب "النقل المشترك" هم من طبقات الشعب الفقير او العمال والمنتجين الاجانب فاولئك البشر هم غير متساوين في الحقوق والكرامة مع الميسورين او المحظوظين، وخاصة اولئك المقربين من اصحاب النفوذ والسلطة.

في الدول التي تحترم نفسها وتحترم انسانها، قضية النقل العام والخاص هي بعكس الحالة الشاذة التي يعيش في ظلها اللبنانيون. في هذه الدول مثل المانيا او سويسرا او اليابان مثلا، تجد في القطارات ومركبات النقل العام رجال اعمال واصحاب مهن حرة كاساتذة الجامعات والاطباء والمحامين والمدرّسين والطلاب حتى السياسيين انفسهم وكبار وصغار موظفي الدولة تجدهم فيها في اي من ساعات اليوم.

والاشد غرابة في الحالة اللبنانية، ان سيارات النقل المملوكة من الدولة مباشرة او حيتان المال مداورة، هي في شكل عام ادنى ترتيبا ولياقة في مظهرها وخدمتها من تلك المملوكة من افراد الشعب العاديين بامكاناتهم المادية. فاولئك الكادحين والمثقلين باعباء كلفة مركباتهم ولوحاتها الحمراء الى جانب اعباء الحياة المادية الاخرى هي أليَق وافعل واوسع انتشارا في كافة بقاع لبنان.

وهنا تقع العلّة الثانية في نظام النقل العام (Transportation System) المملوك من الدولة وبعض المستثمرين الجشعين المقربين من السياسيين. السلطة السياسية والادارية لم تفكر يوما برسم سياسة نقل واعية تقوم على معطيات علمية واهداف بنيوية اقتصادية واضحة، لأن راحة المواطن وسلامته ودقة وصوله الى عمله وعودته الى بيته، تفاصيل صغيرة لا تشغل بال عباقرة الادارة اللبنانية.

حتى لو قدمت الدولة الكريمة خدمة نقل للناس تبقى تلك الخدمة محصورة فقط بالخطوط الرئيسية مثل بيروت - طرابلس او بيروت - صيدا او زحلة... اما تفاصيل وصول الناس العاديين الى قراهم القريبة والبعيدة امر تركته الدولة لمبادرة السائقين المسحوقين بكل اعباء الحياة المادية في لبنان.

بالاضافة الى كل ذلك، يكاد ينعدم وجود مركبات الدولة والشركات الخاصة المستثمرة خلال الليل، ويطول انتظار المواطنين على الطرقات، وتصبح كلفة النقل خاضعة للمساومة بين الراكب والسائق، فيضطر الراكب المسكين الى دفع ضعف السعر الذي يدفعه نهارا وربما اكثر من الضعف احيانا.

وفي خضم هذا الموضوع الاقتصادي الهام ان اولى اسباب هجرة الشباب من قراهم وبيوت اهلهم يعود الى انحطاط نظام النقل العام في كل اصقاع لبنان.

قالت لي طالبة في الجامعة يوما: "صدقني يا دكتور اني أصاب بالاحباط والهم والخوف كلما اقترب موعد رجوعي الى قريتي في عكار كل نهاية اسبوع بسبب وسائل النقل التعيسة. هذا الهم يُنسيني مرات اشتياقي الى ابي وامي، ويطفئ في داخلي الحنين الى قريتي الجميلة!"

سؤال كبير يشغل بال كل مواطن واعٍ: متى سيأتي ذلك اليوم الذي يصل فيه رجال ونساء الى سدة المسؤولية يمتلكون الارادة المهنية والكفاءة العلمية والوجدان الاجتماعي، يرسمون فيه سياسة نقل عام واضحة وطموحة وعصرية تقي المواطن كل اشكال المذلة وهدر الوقت والمال؟

متى سيأتي "العهد الجديد" الى لبنان حيث تتقاطع الوظيفة العامة مع الحس بالمسؤولية وشرف المهنة التي لا يفترض ان يشغلها الا حق المواطن وراحته وكرامته. فان شرف المسؤولية العامة يتجلى ويعلو عندما تسخّر المسؤولية لخدمة المواطن بشفافية وترفّع وعناية.
theme::common.loader_icon