«عصر الحب».. عمر في خواء السراب
«عصر الحب».. عمر في خواء السراب
اخبار مباشرة
نسرين بلوط
جريدة الجمهورية
Friday, 25-May-2018 00:17
في رواية «عصر الحب» للروائي نجيب محفوظ، نرى «الست عين» الأرملة التي اشتهرت في الحارة بجودها وأخلاقها الحسنة، وعطفِها على المحتاجين والفقراء.

وقد وضعت نصبَ عينيها تربية وحيدِها عزّت الذي ينشأ على التبرّم بالتقاليد المفرطة في بيئته، والإجحاف المترصّد لحركات الفرد في علاقاته مع الجنس الآخر، فيثور في الباطن ولا يُظهر ذلك في العلن، بل يجد في معاشرته لصديقه حمدون عند ذهابه للكتاب والذي ينهب العِلم نهباً، وفي عشقِه لبدرية الفتاة الجميلة التي ورثت سوءَ السمعةِ من جرّاء زيجاتِ أمِّها الكثيرة، متنفّساً للضيق الذي يكتنز حدود داخله كالسور المتين الحانق. يحاول عندما يكبر أن يُقنع أمَّه بالموافقة على خطبته من بدريّة، إلّا أنّها تأبى، وتصِرّ على الرفض، لضعةِ أصلِ الفتاة، فيتفاجأ بأنّ صديقه حمدون قد خطفَ بدرية منه ومن أهلها وذهبَ بها إلى المدينة، ليتزوّجَها ويَحترفا التمثيلَ فيما بعد.

 

حبّ وخداع وانتقام


يموت عزّت حتف أنفِه غيظاً وحقداً على أمّه التي لم تحقّق له مطلبَه، فينتقم منها بخداع ابنةِ أمّ سيدة، التي تُرغمه أمّه على الزواج منها درءاً للفضيحة والعار، وتُنجب له ابنَه سمير. يدبّر له القدر مصادفةً تجمعه مرّةً أخرى بحمدون وبدرية فيتّفق معهما على إنشاء مسرح ومشاطرتِهما مهنة التمثيل بالتمويل والإشراف، وبعدها تتسارع الأحداث لينغمس صديقه حمدون بجريمة قتلٍ بعد أن انخرط بأحد الأحزاب، ويتولّى هو مهمّة الإبلاغ عنه سرّاً من خلال رسالة يزجّها في البريد مذيّلةً بتوقيع مجهول يشير بها إلى جريمة صديقه، فيدخل حمدون السجن ويتقدّم بالزواج من جديد ببدرية التي ترفضه رفضاً قاطعاً لشَكِّها في نواياه، وتنأى عنه وتتزوّج من أرمل ثريّ. فيهجر مهنة التمثيل ويقوم بتحويل مسرحِه إلى ملهى ليلي. وتصبح بدرية له بمثابة الخيال المحرّم، تدبّ الحنين المفزع المهجور في ثنايا روحه.

 

الطوفان الأخير


وكلّ هذه الفترة والسنوات التي تمرّ وتتلاحق ينسى أمّه وعائلته، إلى أن يكبر ابنُه سمير فيراه لمرّات قليلة ثمّ تتناهى إلى أذنيه أخبار عن هروب ابنِه بعد تورّطِه في حزب غير قانوني، أفرادُه مطلوبون للعدالة. يراوده الشوق عن نفسه، فيقوم بزيارة لبدرية التي شاخت وفتحَت بدورها ملهىً ليليّاً بعد أن مات زوجها وورثت عنه المال، فيصطدم بالتحوّل الكبير الذي طرأ عليها بعد أن ترهّلَ جسدها وتضخَّم، وباتت جافّة الحلق واللسان والقلب، وتقوم بطرده شرّ طردة ليتيقّن بأنّ إحياء الموتى من القبور بمثابة الطوفان الأخير الذي يقضي على حلاوة الذكرى. ويتفاجأ بعد فترة بخروج صديقِه حمدون من السجن فيعترف له بسرّ الرسالة.. فيسخط عليه الأخير ويغادره مودّعاً صداقتَهما إلى الأبد.

 

نهايتان


يقرّر أخيراً العودة إلى حارته وأمّه وزوجته المهجورة سيدة، التي طلّقها ولكنّها بقيَت في الدار تخدم أمّه التي احتضنتها كابنتِها، فينشطر هنا إلى شطرين. وتبرز هنا المعادلة الصعبة عند محفوظ عندما يقسم شخصية بطلِه إلى قسمين، وكأنّه يقدّم لنا حلّين للنهاية لنختار أحدهما.


في النهاية الأولى يعود عزّت إلى حضن والدته «الستّ عين» مكسورَ الوجدان والخاطر، محتملاً ألمَ اللقاء الذي تأخّر عمراً بكامله، ليراها وقد فقدت حاسّة البصر والسمع، فلم تعِ وجوده ولم تفطن إليه، فيصمّم على السفر بعد فترة ليبحث عن ولده، مُقِرّاً بأنّ ولده سيجد في انتظاره ثلاثة آباء؛ هو وشخصيته الثانية وحمدون صديقه الذي أودعه السجن، وخسرَه بعد أن خرج. وهكذا يمرّ العمر كخيطٍ واهٍ من نورٍ شحّ مع حلول الليل الطويل.


في النهاية الثانية يضع الكاتب نصبَ عينيه نهاية سيدة التي تتأرجح بين الاحتضار الحيّ وبين الموت الفعلي. إذ إنّه يؤكّد موتها ثمّ ينفيه، في استغراق بحثيّ في تصوير سورياليّ للأعماق الإنسانية.

 

حبكة المغزى


ويتجلّى إبداع محفوظ الدرامي في تجزئة الأحداث من دون الحاجة للتفريط في بداية العقدة، والاندماج الليبرالي في اعتقادات شخوص روايتِه، فلا نسخط على أبطاله عندما يتزحلقون على جبل من الجليد من صلابة المواقف وقسوتِها، ولكنّنا نبكي معهم لا شعورياً عندما يحزنون، وهذا سرّ إبداع محفوظ الذي لطالما اندمجَ في التسريب العميق الميلودرامي للسرد، والحفر المونولوجي على حبكة المغزى.


الضعف الوحيد الذي نلمحه في النص هو تسارُع الحدثِ بشكل أكثر من مفاجئ، في جريمة القتل التي يَرتكبها حمدون من دون اللجوء إلى المقدّمات والتكهّنات سلفاً.


نجيب محفوظ كاتبٌ خطير يَحبكُ في هذه الرواية على خطى مكسيم غوركي الذي قال: «إنّ قافلة الماضي لن تصل بكَ إلى أيِّ مكان»، والذي عبَّر عن معاناة شعبِه كما خطّ محفوظ مرارةَ الناس على صفحات رواياته، واتّجه بها إلى البزوغ المتألق إلى عالم الروايات العالمية التي فاقها في عملية الجرف الإبداعي للعقول والقلوب على حدٍّ سواء. 

theme::common.loader_icon