يبحث صليبا دائماً عن "الكمال"، تماماً كما بحث عنه حين فتح تحقيقاً في ملفّ العمالة "المفبركة" للممثل المسرحي زياد عيتاني وأصدر على أساسه حكمه المبرم بحق إبن البيت البيروتي المقاوم.
ومن أجل ذلك، عزّز محبوه شعارات الدعم السياسي و"الانتخابي" له بصور عن حفل الإستقبال الذي أقامه في بلدته المتنية بتغرين عرين ومسقط رأس المرشح الى الانتخابات النيابية النائب ميشال المر.
لكن ما يزين الصفحة في كل "المناسبات" أغنية خصّصت لصليبا "الله يحمي شبابك رمز الرجولة. دعساتك دعسات خيولي. عل الموت نحن أحبابك أهلي وصّوني. شو حلوة ريحة تيابك ريحة بطولة"!
"التنقيب" عن أدوار البطولة في سيرة صليبا العسكرية مهمة شاقة فعلاً. في قوى الأمن الداخلي إستلم مفرزة طوارىء جونية ثم طوارىء بعبدا، سير جونية، معهد قوى الامن الداخلي، غرفة العمليات البحرية المشتركة، ثم بتصرف وزير الدفاع في كانون الثاني 1991 الى حين فصله الى المديرية العامة لأمن الدولة ثم نقله رسمياً اليها في نيسان 1993.
في المديرية تدرّج في عدّة أقسام منها المكافحة، ضابط أمن وانضباط، رئيس قسم التحقيق، رئيس مكتب بعبدا، مساعد المدير الاقليمي لمديرية جبل لبنان الاقليمية، شعبة الخدمة والمعلومات، رئيس قسم أمن الدولة الداخلي، ثم المدير الاقليمي لمديرية البقاع الاقليمية.
هنا تحديداً، تخلى صليبا عن مناقبيته العسكرية فافتعل "مشكلاً" في بتغرين وصل الى حدّ إطلاق الرصاص، وبنتيجة التحقيق تمّ توقيفه مع مفتعلي الشغب من عناصره ليفصل لاحقاً الى ديوان المدير العام...
لا شئ يعلق في الذاكرة عن إنجازات تستأهل هذا "الصخب الغنائي" من قبل محبيه، فكيف حين يستفيق الرأي العام على فضيحة أمنية من العيار الثقيل!
قبل ساعات قليلة من إعلان وزير الداخلية براءة زياد عيتاني الناصعة، أصدر المكتب الاعلامي لصليبا بيان أسَف أنْ "تبلغ السجالات الإعلاميّة حداً متدنياً من المناقبيّات، وأن تروّج لتبرئة من ثَبُت عليهم جرم التواصل والتخابر مع العدوّ بهدف التطبيع، خصوصاً أن القانون اللبناني يُجّرّم العميل، ويحاسب من يتستّر عنه".
للتذكير، أول من روّج للبراءة رسمياً هو وزير الداخلية نهاد المشنوق بناءً على تحقيقات "شعبة المعلومات" التي نسَفت تحقيق أمن الدولة.
من جهة أخرى، إعتبر البيان "أن إثارة قضيّة عيتاني من جديد، في هذا التوقيت المتزامن مع إقتراب الإستحقاقات النيابية، هي خدمة كُبرى لإسرائيل يُسديها لها أطراف وجهات مشكوك بإنتمائها الوطني وبثقتهم بالمديريّات الأمنية".
فضيحة فعلاً تستأهل إستقالة بحجمها. فبعد عشرة أيام على البيان يُطلق سراح عيتاني. الرئيس سعد الحريري يستقبله إستقبال الأبطال في بيت الوسط، والوزير المشنوق يضطر الى إحتضانه على بلكون منزله في الطريق الجديدة بعد أن طافَ صالون "المُحرّر" بالحشود االمهنئة ببراءته.
ثم من كان يقصد صليبا حين تحدّث عن "خدمة كُبرى لإسرائيل يُسديها لها أطراف وجهات مشكوك بإنتمائها الوطني وبثقتهم بالمديريّات الأمنية". إن كنا نعلم أو لا نعلم النتيجة نفسها. "السقطة" الأمنية أكبر من أن يتمّ التستير عليها، لكن بالسياسة كل شئ ممكن، بما في ذلك تحويل مقصّر الى بطل!
ترافقت الفضيحة مع توقيف المقدم سوزان الحاج بعد إتهامها بفبركة ملف عمالة عيتاني، والأهمّ جرّ جهاز أمن الدولة، برئاسة صليبا، الى فخّ تصديق نفسه أنه كشف محاولة ممثل مسرحي إغتيال شخصيات سياسية، بينها وزير الداخلية، والتواصل مع "كوليت" و"نيللي" بهدف خلق مناخات تطبيع وسط الشباب البيروتي!
ومسلسل الإنجازات لا ينتهي. لائحة من الموقوفين تحت قبضة "أمن الدولة" لا يلبث أن يطلق القضاء سراحهم لعدم ثبوت الدليل. هكذا حصل مع الإعلان عن خلية لـ "داعش" تبيّن لاحقا أن عناصرها من الدروز فأخلي سبيلهم، ومع الموقوف السوري الذي حقّق الجهاز معه على أساس أنه واضع عبوة تفجير بئر العبد، مع العلم أن التفجير الذي طال عمق الضاحية الجنوبية في تموز 2013 تمّ بوساطة سيارة مفخخة في مرآب مبنى أثبت لاحقاً مسؤولية نعيم عباس عنه، الى إعلان "أمن الدولة" عن توقيف مسؤول في "جبهة النصرة" تبيّن لاحقاً أنه سائق تاكسي يمرّ بشكل طبيعي على حواجز للجيش النظامي في سوريا.
وعلى قاعدة من "بياناتهم تعرفونهم" تصلح بعض بيانات المديرية لأن تكون صادرة عن رئيس بلدية أو رئيس مخفر: تحرّش، وسلب، ونشل، ومحاولة سرقة...! أأما في ما يخصّ المهمّة الأساسية الملقاة على عاتق "أمن الدولة"، أي مكافحة الفساد، فالجميع بإنتظار "إنتصارات" لم تحصل بعد.
بعد عيد الفصح قرّر اللواء صليبا تلقي التهاني بالمناسبة، وربما أيضاً بمناسبة إنجازه العظيم بكشف "عمالة" عيتاني و"كل الإنجازات".
وفق الصورة التي نشرت على صفحته "غصّت دارته بلفيف من الأصدقاء والأقارب والمحبين الذين تبادل وإياهم التهاني لمناسبة عيد الفصح المجيد". الأغليية الساحقة ممّن حضروا الى دارة اللواء، وهمّ قلّة، كانوا من خارج بتغرين.
قد يبدو الأمر في بلد يتداخل فيه الأمني بالسياسي والعام بالشخصي طبيعياً في الظروف العادية. لكن الزمن زمن إنتخابات، وصراع بين الرؤوس الكبيرة على الصوت التفضيلي... وعلى "تكسير الرؤوس".
"رجل الأمن" في بتغرين يصرّ على فتح منزله لإستقبالات تفوح منها رائحة الترويج الإنتخابي. أصلاً يستحيل فصل تعيين صليبا في موقعه عن هذا المشهد النافر قبل ثلاثة أسابيع من الانتخابات النيابية.
فإختيار رئيس الجمهورية طوني صليبا مديراً عاماً لأمن الدولة لم يأت عن عبث. إبن بتغرين سيكون الوصفة المطلوبة لإزعاج ميشال المر في عقر داره والتضييق عليه وإستفزازه، من دون أن يحسب أحد حساب "دمّ" أهالي بتغرين "الحامي".
بكبسة زر محا الضابط مرحلة من مساره العسكري يوم كان مسؤول المواكبة للمر في حقبة توليه وزارة الدفاع، وحين تعرّض الأخير لمحاولة إغتيال وكان الى جانبه، فجاء ردّ الجميل سريعا بمنحه أقدمية ثلاث سنوات.
وبعكس قائد الجيش العماد جوزف عون الذي بعد تعيينه أمَرَ العسكريين، على قاعدة "نفّذ ولا تعترض"، بالحيادية منبّهاً كل الضباط بأن أي شبهة تعاطي بالانتخابات ستواجه بإجراءات صارمة بحقهم، يرصد عناصر "أمن الدولة"، بلباس مدني، في محيط عمارة شلهوب وهم يلتقطون صور لأرقام سيارات الزائرين من رؤساء بلديات وشخصيات ومناصرين بغية جمع المعلومات عنهم بدلاً من جمع المعلومات ووضعها بتصرف السلطة السياسية كما ينصّ قانون إنشاء المديرية.
وبين بتغرين ومقرّ المديرية "ينغل" مكتب اللواء لإسترضاء ناخبين وإستمالتهم، ولا ضير من توزيع بطاقات تسهيل مرور بالجملة، (في وقت تمارس أجهزة أمنية أخرى تقنيناً قاسياً في توزيع هذه البطاقات)، وتسهيل الحصول على خدمات و"السطو" على ناخبين ومحاولة نقلهم من مقلب الى آخر ... كل شئ مسموح إذا كان الهدف محاصرة ميشال المر تمهيداً لمحاولة إقفال بيته السياسي!
وكما في العمل الأمني الخفيف، يُبدي مكتب صليبا الإعلامي خفّة زائدة في الردّ على جملة التجاوزات التي يمارسها ضباط وعناصر الجهاز. يبرز ذلك في الردّ الكارثي غير المسبوق على مقال في "الجمهورية". "المدير" مفتونٌ بلعب دور سياسي أكبر منه، وبدلاُ من أن ينتشل جهاز أمن الدولة من القعر يفضلّ توسيع دائرته...!
واليوم في زمن الانتخابات، وكما بدأ هذا الجهاز بأمرة صليبا في تدخلاته وضغوطاته وتحويل مخافره الى ماكينات انتخابية في خدمة لوائح معينة، فها هو يكمل بالتدخل الفاضح في العملية الانتخابية من دون اي حياء، ويقدم احدى اهم بدعه والتي تجلت في استدعاءات متتالية لللناخبين المتنيين، ولعدد من المفاتيح الانتخابية، تحت عنوان "دعوة على فنجان قهوة" وذلك يوم الاحد، اي يوم الانتخابات، وهذا امر يرسم علامات استفهام حول من يغطي هذه المخالفة الخطيرة والتدخل الوقح في الانتخابات، الذي تترتب عليه مسؤوليات كبيرة ومحاسبة، ممن ينطبق وعليه وصف "ابو الفضائح".