الإدارة العامة علّة الضعف الإقتصادي والتفكّك الإجتماعي (1)
الإدارة العامة علّة الضعف الإقتصادي والتفكّك الإجتماعي (1)
د. ايلي الياس
جريدة الجمهورية
Saturday, 13-Oct-2012 00:27
ما يحرّض العقل على البحث والدرس والتحليل في القضايا الوطنية الكبرى هو الألم. انه الألم الذي يعانيه الناس العاديون الذين قد لا يشعر بحالهم المسؤول.
كيف يمكن لمسؤول أن يشعر بألم شعبه وتعبه، عندما تكون اغراض ذاك المسؤول واهدافه تختلف كليا عمّا يشغل بال المواطنين القادمين اليه لحل قضاياهم العالقة في ادراج الدولة. أسباب وجع الناس وتعب الناس من دولتهم يقع اولا وأساسا في جهازها الاداري الرسمي، لأن مصالح الناس وقضاياهم الحقوقية والقانونية والتنظيمية ترتبط بهذا الجهاز مباشرة.

القانون العام هو رأس المعادلة وهو روح النظام الذي يحكم العلاقة بين المواطن ودولته. يقول مفكر اجتماعي كبير: "المهم ليس النظام، بل القوة التي تحرّك النظام" والمقصود بالقوة هنا امور ثلاثة: الاحتراف والشفافية والدقة في كيفية تثبيت النظام وتفعيله. فالنظام قوته تكمن في صحة تطبيقه. اذا فقد النظام واحدا من اقانيم وجوده الثلاثة يصبح ساقطا حقوقيا وفكريا واخلاقيا.

كونَ مسألة الادارة في القطاع العام هي موضوعنا في هذه الحلقة، وربما بعدها بحلقات، أردنا ان نسلّط الضوء على الامراض والمعوقات التي تقف حاجزا بين هذه الادارة والمواطنين.

نحن نعتقد بشكل راسخ ان اولى عناصر الضعف الاقتصادي والتفكك الاجتماعي والمسلكي في السلطة اللبنانية هي ادارتها الرسمية الممتدة في كل اجهزة الدولة ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والقانونية حتى نهاية اللائحة.

وليس مستغربا ابدا ان تبقى الدولة اللبنانية في حالة من فقدان التوازن كون جهازها العصبي يتآكله الصدأ اداريا وتنظيميا والاهتراء الاخلاقي – المهني في موارده البشرية (Manpower Resources).

وماذا لو أحصينا مدى عذاب المواطنين وسط روتين الدولة الاداري البغيض، وحجم الوقت والاموال التي تهدر ظلما في جيوب موظفيها "الشرفاء"، وصرخة الناس جميعا بصوت واحد: "افتحوا ابواب السجون لأن الوطن ينهار على ايدي "الصيارفة وتجار الهيكل".

يقول مفكر سياسي كبير: "الوجدان الوطني هو أرقى ظاهرة انسانية عرفها العصر الحديث". ما هو "الوجدان الاجتماعي". انه ببساطة مثلث متساوي الاضلع: الاحتراف والعلم والاخلاق، فلا احتراف كامل من غير علم واخلاق، ولا علم مبرهناً دون احتراف واخلاق، ثم لا توجد اخلاق مطبقة محسوسة بعيدا عن قاعدتي العلم والاحتراف.

مثالٌ على ذلك: كيف يمكن صنع ساعة متفوقة في الدقة والجودة، لو لم تجتمع فيها المعرفة والاحتراف والاخلاق السويسرية؟ كيف كان ممكنا خلق اهم وارقى المدارس الموسيقية التي هي الموسيقى الكلاسيكية لولا العلم الموسيقي والاحتراف الموسيقي والاخلاق والمشاعر الموسيقية الممتازة.

الذي كوّن ساعة "X" والذي ابتدع سيمفونية عظيمة هو "الوجدان"، كما ان الذي خلق الابجدية و"الرقم" و"الخمير" هو ايضا الوجدان الكنعاني- الفينيقي بأبهى مظاهره الانسانية. كما ان الذي جرجر على شعبه ادارة رسمية فاسدة منحرفة نفعية هو انهيار الوجدان الاجتماعي.

تعرفت الى رجل أعمال في العام 2008 خلال ندوة جامعية في الولايات المتحدة قال لي: "حاولت الرجوع الى لبنان بشكل نهائي بعد ربع قرن من الغربة. ولكن الفساد والروتين القاتل في اجهزة الدولة اللبنانية أجبرني على الرجوع الى هنا خلال عامين فقط! الدولة في لبنان جلجلة!
كم تأثرت بكلمة "جلجلة" التي تختصر قصص صلب المواطن اللبناني على خشبة الظلم والجهل وفقدان الشعور بالمسؤولية.

منذ كنت في مراحل الدراسة الثانوية كنت اسمع عن مشاريع الاصلاح الاداري، وكم من المجالس النيابية والحكومات توعدت بالتحديث والتفعيل والانماء الاداري؟ ولكنها ليست سوى "طبخة بحص" لم تستو الى اليوم.

ما فعلته الحكومات منذ الاستقلال هو الاستمرار في زيادة عدد الموظفين الى ان اصبح عدد عناصرها يفوق 110.000 عنصر. من الفئة الاولى حتى الخامسة والامر المريب ايضا هو ان الجزء الاعظم من العاملين والعاملات الذين يشكلون الطاقة العاملة (Work force) في الدولة هم دون المستوى المطلوب في الاحتراف والعلم والخبرة الميدانية.

لقد حوّلت قلّة الكفاءة والفساد المهني الادارة الى "بيت عنكبوت"، كما يقول الفيلسوف نيتشه، يعلق بخيوطه المواطن العادي المسكين ويعصف به غربان المال والطائفية.

في المجتمعات الراقية تعتبر ادارة القطاع العام الطريق المباشر والاقصر لعلاقة المواطن بالدولة والقوانين. كما انها المنصّة الفعّالة لتطبيق القانون على الشعب، وهي الحارس الساهر على حق الناس وسلام الناس وانتاجية الدولة في خدمة المواطن. ولكن النظام السياسي الفاسد في لبنان حرّف الادارة عن حقيقة دورها وجعلها مطية بأيدي السياسيين لتعزيز نفوذهم في كل اجهزتها وفي كل قضايا الناس.

لا يعيّن موظف فيها الا بناء على المحاصصة الطائفية والاقطاعية. ومنذ اليوم الاول لعمله فيها يجب ان يعلم ان الزعيم السياسي الذي أوصله الى الوظيفة العامة هو مرجعيته الاولى وهو الذي يحميه كلما تجاوز القانون الذي يفترض ان يحكم العلاقة بينه وبين مرؤسيه.

لقد تحوّل موظف القطاع العام من "خادم مدني" الى بك مدني او امير مدني يشعر بنفسه انه فوق القانون والمحاسبة. يطل على المواطن العادي، انه دجاجة تبيض ذهبا وفضة له وللذين أوصلوه الى الوظيفة.

اما القضايا الكبرى مثل الاقتصاد الوطني وحقوق المواطن وكرامته واعماله تصبح تفاصيل صغيرة ومصاريف نثرية لا قيمة لها في حسابات تجار الهيكل.
theme::common.loader_icon