إحذروا التخمة على أنواعها
إحذروا التخمة على أنواعها
ساسيليا دومط
جريدة الجمهورية
Wednesday, 01-Feb-2017 00:07
من منّا لم يتناول طعامه ولو مرةً واحدة لدرجة الإكتفاء، الشبع، الإمتلاء وصولاً إلى التخمة. مَن لم يشعر بعدها بانزعاج شديد، ضعف القدرة على التنفّس، ثقل في الأمعاء، غياب النشاط، النعاس، صعوبة النهوض والتحرّك، وإضطرابٌ في المزاج؟ عند شعورنا بكلّ ذلك، ننقض أساساً ما دفعنا لتناول الطعام، ألا وهو الحاجة الجسدية، بالإضافة إلى الرغبة في التلذّذ بنوع طعامنا المفضّل، فنشبع شهيّتنا.
تُعرف التخمة بأنها شعور بامتلاء البطن لأقصى حدّ، تتبعها دوخة خفيفة، قيء، وعدم القدرة على تناول المزيد من الطعام. هي بعيدة كلّ البعد من كونها مرضاً أو تشوهاً في أيّ من الأعضاء، إنما لها آثار سلبية على الصحة وتسبب العديد من الأمراض المزمنة كارتفاع ضغط الدم، السكري والكولستيرول، بالإضافة إلى توسّع المعدة، السمنة، تصلب الشرايين، ضيق التنفس، الإكتئاب وغيرها.

للسيطرة على عادة تناول الطعام لدرجة التخمة، خصوصاً عندما تصبح نمط حياة، لا بدّ من تحديد كمية الطعام الذي يحتاجه الجسم، انتظام الوجبات الغذائية، وذلك بمساعدة أطباء إختصاصيين، مرشدين غذائيين ونفسيين عند عدم القدرة على الإلتزام إرادياً بذلك.

لكن!

لا تتوقف التخمة فقط على المأكل والمشرب. فكم تصيبنا التخَم في علاقاتنا بمَن نحب؟ كالتعلق الزائد بالشريك، والتطلب الشديد، والمبالغة في الغيرة والتدخل في شؤونه وشجونه، ما يدفعه لاختلاق الأعذار فيهرب منا ومن قيودنا.

أما أطفالنا الذين نبالغ بإغداق اهتمامنا بهم ودون قصد منا، فيصابون بتخمة التدليل، الحماية، التسلط، البذخ والترف، الحكم على الغير من خلال المظاهر، السطحية، المثل السيّئ، الإهمال، الخوف من خبراتنا السابقة، القلق، التمييز بين الأبناء، الحرّية وعدم التواصل والإدعاء.

«الزايد خيّ الناقص»

في مجتمعنا اللبناني الحالي، لا يمكن التغاضي عن ظاهرة التخمة الإجتماعية، وذلك من خلال مقتنياتنا التي تفوق أحياناً عشرات الأضعاف ممّا نحتاج حقيقة من ملبس ومأكل، كما يمتدّ ذلك على أمور كثيرة في حياتنا اليومية، فنلاحظ بأنّ العديد من الأشخاص يحملون هاتفين خلويين أو أكثر، دون أدنى حاجة لذلك، سوى التظاهر الفارغ تعويضاً عن نقصٍ ما، أصابهم.

أما استعراض الموائد، فحدّث ولا حرج. كميات الطعام في برادات المنازل، وغرف المؤن في البيوت تصيب أطفالنا بالقرف، بفقدان الشهية، وقد سمعت أحد الأبناء يتمنّى لو يخالجه ذاك الشعور بالشهية تجاه الطعام، أي طعام. تصيب تلك التخمة الأطفال بعدم الرغبة، بالإكتئاب، بمشاكل أبسطها إضطرابات في الشهية.

ينطبق المنطق نفسه على مَن يُغرقون أبناءَهم بالملابس والأحذية، ما لا ينعكس فرحاً على الأطفال، بل على العكس تفقد تلك الأشياء بنظرهم بريقها ورهجتها، وتنعكس غروراً وتعالياً فارغاً على أبناء جيلهم. يتميّزون بحالة دائمة من الطمع والجشع، لا يكتفون، ويريدون دائماً المزيد؛ خزائن تفيض بالملابس التي لم تُستعمل ولو لمرة واحدة.

أما تسلّط الأهل وتدخّلهم المفرَط في شؤون أبنائهم وقراراتهم، فتخمة من نوع آخر. هم يبالغون في حمايتهم، يتّخذون القرارالسليم برأيهم، عنهم، فتصل التخمة إلى حرّية التصرف لدى الأبناء، ما يرتدّ قلقاً وخوفاً وتبعية لأيّ كان في الخارج، هروباً من تسلّط الأهل. وما يزيد الوضع سوءاً، انعكاس تجارب الأهل السابقة، وخوفهم من أن تتكرّر مع الأبناء، فيقومون بوأد عفويّتهم وطموحاتهم في مهدها.

بهدف الحماية، يخفي الآباء والأمهات أحياناً عن الأطفال حقيقة الأمور السلبية التي لا بدّ منها، كالمرض والموت، بالإضافة إلى السلوكيات غير المرغوب فيها، كتعاطي المخدّر، لعب الميسر وغيرها، عوضاً عن تعليمهم وتنبيههم من الوقوع في الخطر الذي يشكّل عنصرَ مفاجأة في الحياة.

حتى إنّ من الأهل مَن يفرضون ضوابط وقوانين صارمة على الأبناء، ويشوّهون الحقائق، فلا يكشفون لهم أموراً محرّمة برأيهم كالعلاقة الجنسية مثلاً، ويمنعونهم عن ذكر الموضوع، وحتى التفكير به، بدل التحاور معهم وأخذ الأمور الحياتية بوعي وموضوعية. أليس هذا من تخمات الجهل؟

أما تخمة التسيّب والإهمال والفلتان، فتتمّ تحت إسم الحرّية. يهمل الأهل أبناءهم، دون عطف أو عناية أو رعاية، يحرمونهم الشعور بالإستقرار والأمان من خلال عدم المراقبة، تحت شعار الحرّية، والحرّية الزائدة فلتان وتسيّب، كما التسلّط، فهما طريقان للأبناء إلى الإدمان والشذوذ، ومشاريع عصابات تزرع الفوضى والإجرام في النفوس.

يحتاج أبناؤنا للإعتدال والموضوعية من قبلنا، خصوصاً في مراحل التنشئة، عبر التعامل مع الأمور الحياتية. كما لا يعوّض مال العالم عن غياب أب رمز السلطة والحماية، وأم تمثل الحنان والعناية. فقلّلوا من الغياب بحجّة جني المال، وأكثروا من الوقت النوعي مع أبنائكم لمساعدتهم على العيش في استقرار نفسي وراحة.
theme::common.loader_icon