الموت الرحيم... والعلاج التلطيفي!
الموت الرحيم... والعلاج التلطيفي!
اخبار مباشرة
جريدة الجمهورية
Saturday, 28-Jan-2017 01:17
فيما كانت «ماري» وهي في العقد الثامن من عمرها تقضي أيام حياتها الاخيرة في احد مستشفيات لبنان نتيجة تعرّضها لوعكة صحية مستعصية، ومع تأكيد الأطباء انه لم يبقَ امامها سوى ايام معدودة قبل أن تفارق الحياة، اقترح طبيبها المعالج على عائلتها إعطاءها حقن المورفين لتخفيف آلامها وهي تلفظ انفاسها الاخيرة. وكان المورفين سيجعلها تنام، وسيريحها من أوجاعها الى حدّ مفارقتها الحياة التي كانت متمسّكة بها.
إقتراح الطبيب هذا، رافقته نصيحة اخرى بموجبها تنقل الى منزلها لتأمين راحتها النفسية وجعلها ترقد بسلام. إلّا أنّ آراء أفراد عائلتها انقسمت الى اثنين فمنهم مَن وافق على العرض باعتباره علاجاً تلطيفياً، ومنهم مَن رفض الفكرة رفضاً قاطعاً، معتبراً أنهم ينفّذون بحقها حقنة «الموت الرحيم» وبذلك هم يقضون عليها بأنفسهم، آبين نقلها الى المنزل ظناً منهم أنّ في المستشفى يمكن تخليصها من القدر المحتم «الموت».

على أيّ حال، توفيت «ماري» -رحمها الله- في المستشفى، ولكن كيف تفسّر هذه المشهدية التي يمكن أن تواجه عائلات كثيرة يعاني احد افرادها من مرض مستعصٍ. فما هو الفرق بين العلاج التلطيفي والموت الرحيم؟ ومتى نلجأ الى أيٍّ منهما؟

العلاج التلطيفي

في هذا السياق، يجيب خريج مستشفيات الولايات المتحدة البروفيسور السابق في جامعة فلوريدا، والرئيس الحالي لقسم علاج الأورام بالإشعاع في مركز كليمنصو الطبي البروفيسور نيقولا زوين في حديث خاص لـ«الجمهورية» قائلاً: «عندما يكون المريض امام حالة مرضية مستعصية والعلاج لن يشفيه، واصبح واضحاً طبياً انه لن يبقى على قيد الحياة سوى مدة اقصاها 6 أشهر، نعرض حينها عليه او على اهله العلاج التلطيفي الذي يؤمّنه فريق طبّي متكامل يحاول خلاله تفادي أيّ نوع من التدخل الجراحي او العلاج الكيمائي او أيّ علاج قد تنتج عنه عوارض سلبية».

إدارة العوارض

ترْك المريض بحاله او الاصرار على تقديم له العلاجات التي ستؤذيه وتؤلمه، ظناً بالعائلة انها تقوم «بواجبها» تجاهه، ليس الحلّ الانسب. وقد تغيب التوعية في العالم العربي عموماً ولبنان خصوصاً عن تفاصيل «العلاج التلطيفي» ويُعتبر حالة من الاستسلام وتحتيم الموت. إلّا أنّ هذه «الواجبات» لن تبلسم آلام المريض بل ستزيدها حتى يحين موعد الرحيل.

الى ذلك، لا يمكن للفريق الطبي أن يقرّر إخضاع المريض للعلاج التلطيفي اذا رفض الاهل او المريض نفسه ذلك، وفي حال وافق المريض وبدّل رايه لاحقاً يتوقف العمل بهذا العلاج. ويتضمّن فريق العلاج التلطيفي، اختصاصية نفسية، اطباء وممرّضين واختصاصيين في العلاج التلطيفي والتخدير.

وعن تفصيل عمل هذا الفريق الطبي يقول زوين «يتوقف العمل بأيّ علاج جدّي، مثلاً إذا اعتبرنا أنّ المريض يعاني من السرطان وهو يتألم، نعمل على تقديم الدواء الذي يحدّ من وجعه، أو في حال عانى من الغثيان نقدّم له الدواء الذي سيخلّصه من هذا الشعور. التركيز إذاً يكون حول إدارة العوارض وتحسين نوعية حياة المريض».

مضيفاً «في بعض الاحيان قد نضطر الى العلاج الشعاعي عند مرضى السرطان في حال لم يسكّن المورفين من آلامهم، فنستعمل الاشعة لهدف تلطيفي للتخلص من الوجع.

اضافةً الى ذلك قد يرافق العلاج التلطيفي العلاج الروحي اذا أراد الشخص فنأتي برجل دين ليواكبه في نهاية مسيرته»، موضحاً أنّ «المسكّنات وأدوية التخدير كالمورفين وغيرها تدخل ضمن العلاجات التلطيفية، فهي تُعطى بمعدل مدروس لجعل المريض ينام وتوفير معاناته دون أن تسبب موته».

تحسين نوعية الحياة

لا تبدو هذه العناية موتاً رحيماً لا بل على العكس، إنها شكل من اشكال الاندماج مع فكرة الموت. فهذا العلاج يوفر افضل نوعية لحياة المريض، يمنع عنه الألم والعذاب ولا يجعله يواجه الموت الف مرة قبل أن يموت.

وفي الدول المتحضّرة كأميركا مثلاً تطوّر العلاج التلطيفي الى حدّ كبير، ويشير زوين الى أنّ «هذا التطوّر يشمل بشكل خاص مرضى السرطان، الرئة، الكلى والقلب فأصبح يعرض عليهم تلقائياً العلاج التلطيفي ويصرّون أن يكون المريض في بيئته ومنزله ويسعون الى تأمين كلّ مستلزماته الى منزله، وإذا تعذّر الامر يتمّ نقله الى مركز مخصص للعلاح التلطيفي.

ولاحظنا أنّه في آخر حياة المريض يرتفع الاستهلاك المادي للعلاج التقليدي دون نتيجة ملموسة، بينما العلاج التلطيفي هو أقل كلفةً على المريض واهله والنتيجة افضل وتضمن له نهاية حياة ونوعية ممتازة».

الموت الرحيم

الى ذلك، يُعتبر «الموت الرحيم» عملية تسهّل إنهاء حياة الشخص المريض الميؤوس من شفائه بناءً على طلب مُلِحٍ منه، ويوضح زوين أنّ «الموت الرحيم مسألة قانونية لا فقط طبية، ولا يطبّق سوى في البلدان التي يسمح قانونها بذلك مثل بلجيكا سويسرا وهولندا.

ولا يمكن للأهل أن يقرذروا ذلك بل على المريض نفسه أن يوقّع طلب «الموت الرحيم» خلافاً للعلاج التلطيفي الذي يسمح للعائلة اتخاذ القرار. وعند طلب «الموت الرحيم» يكون المريض قد وصل الى مرحلة تقدّم فيها مرضه وقرّر أنه لا يريد العيش.

فتتشكل على الأثر لجنة طبية، تتأكد بدورها من انه يعاني فعلاً مرضاً مستعصياً ولا يمكن علاجه. وتقوم اللجنة بتقييم وضعه النفسي للتأكّد من انه في كامل وعيه ويعلم ماذا يريد. وعلى الأثر يتقدّم الفريق الطبي بطلب رسمي من الدولة وبعد أن تتمّ الموافقة على الملف يقوم الطبيب المعالج بإعطاء المريض حقنة من المورفين او أيّ نوع آخر، يفارق إثرها الحياة فوراً».

الموت الرحيم المقنع في لبنان

في لبنان، لا يوجد أيّ قانون يشرّع الموت الرحيم، وفي حال تمّت ممارسته، يُعتبر جريمة يعاقب عليها القانون، ولكن لطالما سمعنا أنّ لبنان يعاني من «الموت الرحيم» المقنع في الكثير من الحالات المرضية المستعصية، وفي هذا الإطار يقول زوين «عندما نتأكد من أنّ حالة المريض غير قابلة للعلاج او الشفاء، وأنّ قلبه مثلاً لن يعمل إلّا بمساعدة الآلات، أو في حال انه غير قادر على التنفّس، أو إذا كان في غيبوبة وحكم بموت دماغه، ولا أمل في أن يستعيد وعيه، من الممكن حينها أن نأخذ قراراً بمشاركة ومناقشة الأهل وطبعاً بحسب قانون المستشفى وأخلاقياته وقوانين الدولة برَفع أجهزة التنفس الاصطناعي عنه أو توقيف الدواء والغذاء عنه، وهنا نكون طبّقنا الموت الرحيم غير المباشر من أجل راحة الشخص»، خاتماً «لا تزال القوانين في لبنان غير واضحة، ويجب أن تتطوّر لتواكب الحقائق العلمية والطبّية من أجل التخفيف على المريض والطاقم الطبي»، داعياً «أن تكون هناك لجان تشريعية ورأي للقضاء لمتابعة هذا الملف».

أخيراً، تُرعب كلمة «المورفين»، و»العلاج التلطيفي» المريض وأهله، ولكن بما أنّ الموت هو مصير محتم للجميع، فبالتأكيد إنّ تحسين نوعية الحياة والتخلّص من الآلام هما طريقة جيدة لتوديع الحياة.
theme::common.loader_icon