عندما يصل الفساد إلى المرجعية الأكاديمية
عندما يصل الفساد إلى المرجعية الأكاديمية
د. ايلي الياس
جريدة الجمهورية
Friday, 05-Oct-2012 23:57
يقول الفيلسوف الكبير كونفوشيوس: «من يقتل انسانا يدعى مجرما ومن يقتل شعبا يدعى فاتحا ومن يقتل البشرية جمعاء يدعى إلها».
بعض سياسيي لبنان يعلمون وغالبيتهم لا يعلمون ان الفتوحات التي دخلت الى بلادنا هي التي عزّزت الكراهية في نفسية شعبنا وهي المصدر الاساسي للتخلف والبلبلة الثقافية والتراجع الاخلاقي الذي حلّ بنا.

بدءا بالفتح البيزنطي مرورا بالفتح العربي الى الفتح الصليبي الى الفتح العثماني وانتهاء بالانتداب الفرنسي – البريطاني، جميعهم كانوا غزاة وكانوا غرباء عن نفسية شعبنا وقواعده الاخلاقية ونظرته الى الحياة والوجود والجمال. اتوا الينا كغزاة لكنهم دعيوا "فاتحين"! اولئك الفاتحون بالحقيقية مذ دخلوا اغلقوا علينا كل ابواب العقل ونوافذه وفتحوا علينا ابواب الاحقاد والنزاعات والغرائز والتفلت السلوكي.

لذلك نرى ان جميع الذين توالوا على السلطة والنفوذ في هذه البلاد باستثناء قلة قليلة منهم، حكموا بعقلية الاستبداد والاعتباطية الفكرية والانحلال الاخلاقي.

وبحق السماء الى اين يمكن ان يصل شعب، حكامه غارقون في الانانية والشهوة والانحلال الوجداني؟ الطريق معروف والنهاية عرفناها منذ قرون ولا نزال نغرق في آتونها الى هذه اللحظة.

اوصلنا حكامنا الى مجتمع طائفي غير جدي وغير مسؤول في كل مجاري حياته. اتمنّى لو يقول لي اي مواطن لبناني عن ظاهرة او مؤسسة عامة واحدة تديرها الدولة بصدق ومعرفة حقيقية وعناية.

ذلك بدءا بالادارة بكل مستوياتها الى البيئة الى الموارد الطبيعية الى الكهرباء الى النقل العام الى حال الطرق والابنية العامة الى التربية.. الى .. الى حتى الجامعة اللبنانية التي يفترض ان يديرها اكاديميون يتمتعون بالكفاءة والاخلاق، وهم كثر في لبنان بدون شك.

هذا الصرح العلمي الهام تعمل الذهنية السياسية المنحطة على تدمير هيبتها العلمية ومناخها الاكاديمي كل يوم. فليتصوّر القارىء الكريم انه حتى عمداء الكليات في الجامعة يعينون على اساس طوائفهم ومذاهبهم! يا لخجل العلم والمعرفة من هذه المدرسة السياسية الجاهلة.

حتى الاكاديميا في لبنان تلوثها "الحزبية الدينية" بالطائفية والمذهبية ويعللون ذلك بالاضاليل والاكاذيب "كالاعتبارات الوطنية" من اجل المحافظة على "العيش المشترك"، و"الوحدة الوطنية" و"الشراكة في الوطن" و"حقوق الطوائف": نعم حقوق الشركاء في دكان او متجر صغير اسمه الجمهورية اللبنانية...

يقول المهاتما غاندي: "تولد الامم في مخيلة المثقفين والشعراء وتنمو او تندثر على ايدي سياسييها". اودّ ان اسأل شعبي: هل نحن وطن ينمو ويزدهر ام نحن جماعة بشرية تتراجع وتتساقط كل يوم؟

يقول ايضا الجنرال ديغول: "السياسة مسألة بالغة الدقة والخطورة من ان تسلم لايدي السياسيين". هذا في الهند وفرنسا فما هو الامر اذا في مجتمعات متل لبنان ومصر وليبيا والسودان وغيرها...

المهاتما غاندي قال لمستعمريه يوما: "انتم تقولون ان الشمس لا تغرب عن حدود امبراطوريتكم وحرابكم ولكني اريد ان اؤكد لكم ان شعبي سوف يجعلها تغيب عن بلاده دون صفعة خد او اراقة نقطة دم واحدة".

وغيّب الشعب الهندي شمس الاستعمار عن بلاده كما تنبأ وخطّط وفعل قائده وملهمه غاندي. اما الجنرال ديغول الذي تسلّم فرنسا بعد الحرب مدمرة هزيلة مضعضعة فقادها بشرفه وصدقه ومناقبيته العسكرية حتى اعادها الى مقدمة الامم الفاعلة والمنتجة والمنظمة.

ان الذي يشغل مخيلتي وفكري ومعرفتي العلمية المتواضعة هو كيف يمكن ان ننقذ بلدنا من الجهل الذي يظنه سياسيونا انه "شطارة"، ومن الكراهية المستشرية التي يفلسفها عباقرة الطائفية انها "حنكة"، والاهمال والجبن في مواجهة الصعاب والتي يعلنها "جهابزة" السياسة انها "اعتدال".

الحق نقول ان كل هذه الشطارة والحنكة والاعتدال ما هي إلاّ نفاق ومماطلة وتخدير للشعب وتضييعه عن حقه في الحياة والحرية.

سوف نتناول في ملفات مقبلة موضوع الاصلاح الاقتصادي من خلال الاصلاح الاداري. لأنه برأي العلم، ان الادارة العامة السليمة هي الركيزة الاولى في مداميك البناء الاقتصادي السليم.

علّمتني التجارب والبحوث العلمية ان الدولة تشبه جسم الانسان. السلطة المدنية العليا هي الرأس المدبر والمال هو الدم الذي يوصل الغذاء لكل مرافقها والجيش هو عضم الدولة. اما الادارة فهي جهازها العصبي. ومن اجل جسد سليم معافى ذلك يتطلب حكما جهازا عصبيا سليما يعمل في بيئة نظيفة وكفوءة وسلامية.

نظيفة تعني اداريا انها بعيدة كل البعد عن المطامع والمفاسد السياسية- الطائفية و النفعية المالية. كفوءة تعني ان كل الذين يعملون فيها هم على درجة ضرورية وكافية (Necessary & Sufficient) لناحية المعرفة العلمية والخبرة الميدانية (Field Knowledge).

وسلامية تعني ان كل عنصر في هذا الجهاز الخطير يجب ان يكون على علاقة اخلاقية ووجدانية عالية مع كل مواطن يلجأ اليه طلبا لانهاء معاملة مهما كبرت او صغرت.

لأن الموظف الاداري الرسمي هو "خادم" لشعبه ولدولته والهدف الاساسي لوجوده هو علاقة شفافة واحترافية من اجل بناء اقتصاد سليم ومجتمع موحد ودولة عادلة.
theme::common.loader_icon