وسقطت آخر حبّة من العنقود... أبو مجد اللحن رحل مع ضوء قمر تشرين!
وسقطت آخر حبّة من العنقود... أبو مجد اللحن رحل مع ضوء قمر تشرين!
راكيل عتيِّق
جريدة الجمهورية
Saturday, 29-Oct-2016 00:07
سقطت آخِر حبّة من عنقود الأغنية اللبنانية... حملَ كلمة الأغنية اللبنانية ولحنَها لعقود، واليوم ما من كلمة تحمل رحيله المُبكِر، النغمة ترثيه وتبكيه، من سيَحملها بعده؟ غاب الموسيقار، رَحل ملحم بركات عن 71 عاماً سلك طريقاً من الإبداع والعطاء و«الخْوات» الفنّي. لم يتّسِع مسرح الأخوين رحباني لطموحاته، فمشى بطريقه هو على طريقته هو. خرج ليصنع لحناً ولوناً غنائياً وهويّة. لحناً لا يشبه غيرَه ولا غيرُه ممكن أن يشبهه. من النوتة الأولى من أيّ أغنية تَعرف أنّ هذا اللحن لملحم بركات. «أواواوا... أواوا»، لبنان بشعرائه وفنّانيه وناسِه ونسماته... بارودة الصيد وهواء كفرشيما... كلّ كلمة من معنى تتوق للذوبان على أوتار عوده... الجميع يتأوّه، حبّ الطرب والشجن غاب.
بعد شائعات كثيرة تناقلتها الوسائل الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، عن وفاة الموسيقار ملحم بركات، فُجِع اللبنانيون بإعلان الشاعر نزار فرنسيس الخبرَ اليقين بوفاة أبو مجد يوم أمس، فكتبَ عبر «تويتر»: «رفيق عمري راح... نفسي حزينة حتى الموت».



حوالي الثالثة من بعد ظهر 28 تشرين الأول 2016 غاب ملحم بركات ابن كفرشيما عن الحياة الأرضية، لربّما إلى حيث سيلتقي بالكبيرَين الراحلين أبناء ضيعته حليم الرومي وفليمون وهبي، وبعاصي ومنصور الرحباني، وبزكي ناصيف ووديع الصافي ونصري شمس الدين وصباح وجوزيف صقر.... معاً بالتأكيد حيث يكونون تكون الجنّة.

أكثر من 107 أغنيات في رصيد الموسيقار ملحم بركات، كتبَ له العشرات منها رفيق العمر وطريق الفن ودرب الصيد ورفيق الأيام واللحظات الأخيرة الشاعر نزار فرنسيس، الذي قال بصوتٍ متقطّع حزين «راح ملحم بركات، راح اللي محلّو كتير واسع بالفن، انطوَت صفحة برحيل ملحم من تاريخ الفن العربي».

وتابَع في حديثٍ لـ«الجمهورية» «ملحم بركات من جيل لن يتكرّر، كان متعصّباً للأغنية اللبنانية لأنه كان يعتبر أنّ الأغنية اللبنانية يجب أن تأخذ مكانتَها ومساحتها الحقيقية على الساحة العربية، وكان يعمل دائماً على هذا الموضوع»، موضحاً: «كان يُعارض الفنّانين اللبنانيين الذين يغنّون أغنيات غير لبنانية أكثر من الأغنيات اللبنانية، ولم يكن يعارض الأغنية غير اللبنانية بالمطلق، فكان يريد أن يحافظ الفنّان على هويته الفنية التي تنتمي إلى بلده».

أخبار كثيرة قرأناها وسمعناها أخيراً عن مرض ملحم بركات، فأوضَح فرنسيس أنّ «ملحم بركات كان مُصاباً بسرطان البروستات، وانتقلَ إلى ظهره، وكنّا نظن أنه يعاني من التهابات في ظهره أو «ديسك»، لكنّ السرطان انتقل ولم نستطع أن نسيطر عليه».

بحسرةٍ على خسارة صديق العمر، قال فرنسيس: «عِشرة عمر أنا وملحم، 22 سنة مع بعضنا يوميّاً في الاستوديوهات وفي الصيد، لم تكن صداقتنا عادية، وهذا الإنسان الذي اسمه ملحم بركات يعني لي الكثير»، مضيفاً بغصّة: «رح ضلّ مِن هلأ لموت مضَيّعو».

عن صفات ملحم بركات أشار إلى أنّه «الكبير الذي قلبُه بقي صغيراً وطفلاً، ملحم بركات العظيم الكبير يوجد في داخله إنسان متواضع قريب من الناس، يتميّز بالوفاء والأخلاق العالية».

وروى نزار فرنسيس اللحظات الأخيرة مع ملحم بركات، «أمس الأوّل الخميس كنتُ عنده في المستشفى، وضَعنا موسيقاه وأغنياته، وكان يستمع إليها ويتجاوب معها، فيدقّ على صدره ويدندن مردّداً النغمات، «هو ومركبينلو ماكينات الأوكسيجين... هلقد فنّان ملحم بركات، هلقد بدمّو الفن».

طوني أبي كرم

الشاعر طوني أبي كرم الذي تعاملَ مع الراحل ملحم بركات، وأثارَ عملُهما المُشترك الأخير أغنية «بلا حب وبلا بطيخ» للفنّان فارس كرم ردودَ فعلٍ متضاربة، قال لـ«الجمهورية»: «عندما تكون قريباً من شخص لا تجد كلاماً للتعبير عنه حتى ولو كنتَ شاعراً، خصوصاً أنّ ما يزيدني وجعاً أنّه خلال الأسبوع الماضي كانت حالته جيّدة، وخلال زيارتي له سألني: «شو كاتب شي جديد مِتل البطيخ»، فأسمعتُه كلمات أغنية وقام بتلحينها في المستشفى، وهي موجودة على جهازي الخلوي بصوته، وهي آخِر أغنية قام بتلحينها ملحم بركات». ويتابع «الأغنية لفارس كرم وأخَذنا القرار بذلك أنا وملحم بركات في لحظتها، وهي أغنية عفوية وطبيعية ولبنانية مئة في المئة».

ويشرح: «دخلت إلى غرفته وقلت له لماذا أنت نائم، فلننزل إلى الاستوديو. فقال لي: «ليِخلص المصل»، أجبتُه: «بلا مصل بلا بطيخ»، وسألني حينها «شو عندك جديد». ويروي: «على رِجل الكرسي لحَّن الأغنية، وبالكاد استطاع غناء اللحن بصوته».
وأعلنَ أبي كرم أنّ الموسيقار قال له حرفياً «عم يِجوا يتفرّجوا عليّي كيف عم بنتهي».

عبدو منذر

بدوره، قال المايسترو عبدو منذر لـ«الجمهورية»: «ملحم بركات هو اللبناني الأصيل الذي لم يقبل أن يشتغل إلّا الموسيقى الخاصة فينا والتي تشبهنا».

من الناحية التقنية، يقول منذر: «كان يعطي ملحم بركات من نفسه ومن جذوره وهذه اللغة التي نفهمها نحن»، مشيراً إلى أنّ خلطة «الكلمة اللبنانية وألحانه وصوته لا تتكرّر».

وتابع: «عندما نسمع اللحن ولو بأيّ صوت، نعرف أنّه لحن ملحم بركات، الناس تقول إنّ الألحان تشبه بعضَها لكنّها ليست كذلك، إنّها هوية و«ستيل» خاص يشبهه هو ولا يشبه أحداً آخر».

عن خروج ملحم بركات من مسرح الأخوين رحباني، قال منذر: «مسرح الأخوين كان مدرسة لملحم بركات، لكن عندما تفرَّد وخرج من الشرنقة وأصبح فراشةً عبَّر عن نفسه وعن ستايله وانطلقَ أكثر عبر الإعلام، كلّ إنسان يملك كلّ هذه المعطيات يصل إلى مكان أبعد من أن يكون محصوراً في مسرح منضبط بألحان معيّنة من خلال ألحان الأخوين رحباني أو أيّ مدرسة أخرى... انطلقَ من مدرسة الأخوين ولكنّه فتح خطّاً خاصاً له وبرَع فيه».

وأشار إلى أنّه «كان مشهوراً بالجملة اللحنية التي لا يصنعها أحد، وبالإيقاع البطيء «مِنقعِّد الإيقاع»، حتى تأخذ الجملة مداها ويكون لها زخمٌ أكبر كي تصل إلى العقل البشري وتلمس إحساسَ المستمع أكثر... كما كان يشتهر بالتنوّع داخل كلّ لحن من ألحانه».

وعن عمله مع الموسيقار، قال منذر: «أقمنا عدة حفلات سويّاً، كنت أنا «أنوِّت» له موسيقاه وكنت أوزّع له الألحان التي يعطيها لماجدة الرومي، كما كنت أعزف معه خلال حفلاته التلفزيونية».

وأخبَر عنه: «كان يمزح كثيراً وكان يتمرّن كثيراً ويحبّ البروفات ويعيدها مرّات عديدة، كي تركزَ الجملة اللحنية كما يريدها هو». وخَتم: «ملحم بركات أحد العمالقة الذين فقدناهم بالموسيقى اللبنانية».

الياس الرحباني

عملَ ملحم بركات في بداياته مع الفنّان الكبير الياس الرحباني الذي قدّم له أغنيات ساهمت بانطلاقته وما زال الناس يردّدونها لغاية اليوم، وقال الرحباني لـ»الجمهورية»: «تعرّفتُ إليه في عمر صغير، بدأ هو بالغناء مع المجموعة في مسرح الأخوين رحباني في أواخر الستّينات.

ربَطتنا صداقة وأحببتُه، وهو صوت جميل، وفي عام 1972 شاركَ في مسرحيتي «أيام صيف» إلى جانب وديع الصافي ونصري شمس الدين وهدى وجورجيت الصايغ... ومِن طريقة أدائه ظهرَ ملحم بركات أنّه قويّ، واشتهرت الأغنية التي غنّاها في تلك المسرحية «10 11 12 دقّت الساعة بالليل».

وتابع: «إضافةً إلى تلك الأغنية أعطيتُ ملحم بركات أغنية من الطرب الخفيف بعنوان «يا حبيبي دوّبني الهوى»، وأغنية «لا تهزّي كبوش التوتة».

خرج ملحم بركات من مسرح الأخوين رحباني لأنّهم لم يعطوه مساحة للتلحين، في هذا الإطار قال الموسيقار الياس الرحباني «لم يكن أحد يلحّن في مسرحيات الأخوين رحباني إلّا فيليمون وهبه استثنائياً».

وكشفَ الرحباني، «في داخلي كنتُ أقول: ملحم بركات شاب قبضاي، وتفاجأت بمرضه، كنت أزور مريضاً قريباً لي في المشفى وعرفتُ بوجود ملحم بركات، فزُرته ورأيته بحالة جيّدة فمازحتُه كثيراً وضَحك... وصرتُ أزوره يومياً، وفي اليوم الرابع أخذوه إلى غرفة العناية الفائقة، كان هادئاً، دخلتُ وقلت له أنت عنتر وزينة الرجال يلّا بدّك تقوم».

واعتبَر الموسيقار الرحباني أنّ «ملحم بركات هو نجمٌ للشرق الأوسط»، متابعاً: «مَنّو هيِّن، غزا العالم العربي، هيدا زلمي مِنشوف حالنا فيه». وأكّد «لا يوجد اليوم من سيَحمل راية الأغنية اللبنانية واللحن اللبناني».

سيُلغي اللبنانيون مواعيدهم يوم الأحد، ليرقصوا مع «أبو مجد» للمرّة الأخيرة، وستتمّ مراسم الدفن عند الواحدة من بعد ظهر الغد في كنيسة مار نقولا في الأشرفية، ومن ثمّ سيُنقل الجثمان إلى كفرشيما. «الصيّاد» يعود إلى أرض ضيعته التي أحبَّها، والتي على نسمات هوائها أبدع أجملَ الألحان. ملحم بركات «جيت بوَقتك»، أكملتَ نسجَ خيط الأغنية اللبنانية الحريري بصوتٍ صارخ في الضمير والوطن والقلب، ولكنّك «فلّيت مِش بوَقتك».
theme::common.loader_icon