أثارنا ونحن (12) ...تخلّف إقتصادي واجتماعي وعلمي
أثارنا ونحن (12) ...تخلّف إقتصادي واجتماعي وعلمي
د. ايلي الياس
جريدة الجمهورية
Saturday, 29-Sep-2012 00:45
في ضوء شروحاتنا السابقة، حيث حاولنا التأكيد على حال التراجع المذهل الذي مني به شعبنا على مدى قرون مضت، ذكرنا الاسباب التاريخية التي اودت بنا الى ادنى مراتب الامم. كل ذلك بعدما كنا السباقين لا بل الاولين في بناء الاسس الاولى لنهوض الانسانية من مرتبته الوحشية الى مراتب التمدن والتفاعل الفكري، يوم اكتشفنا الابجدية والرقم والرياضيات والقانون والعبادة الراقية بأرفع مظاهرها النفسية.
صار لزوم وواجب علينا البدء بكشف المسببات الحقيقية لتراجعنا الواضح والفاضح في كل مظاهر الحياة بالمقارنة مع الامم المتمدنة في العالم الحديث.

نحن اليوم في حالة تخلّف اقتصادي واجتماعي وعلمي وقانوني واخلاقي. الشعوب المتقدمة المنتجة الجدية تقدم كل يوم حلولا جديدة في كافة المعارف
والعلوم والانسانية. اما لماذا كل هذا العجز العقلي وهذه البلبلة النفسية وكل هذا الاستسلام للأمر الواقع المفروض علينا.

السبب الاول كما قلنا من قبل هو فقداننا لوحدتنا كشعب. وفقدان الوحدة النفسية والاخلاقية والثقافية جلبت الينا ذهنية التناحر والاقتتال والبغضاء.

وكيف يمكن لعقل بشري ان يفعل وينتج ويتفاعل، طالما ان الحقد والكراهية والثأر هي المناخ والبيئة التي نولد، وننمو، ونموت في داخلها.

ان ما نحن فيه كل يوم من تناحر سياسي وتفسخ اجتماعي وضياع اخلاقي اطفأ كل مواهبنا وخنق مخيلتنا وضيّع علينا كل امكانات استثمارنا لطاقاتنا ومواردنا النفسية والمادية.

واذا نحن نريد فعلا وبكل جدية وصدق الذهاب الى المعالجة الواعدة الفعالة للحالة المرضية التي نحن فيها، يجب ان نكون صادقين مع انفسنا وان نقول الحقيقة الكاملة في الكشف عن مسببات المرض المزمن الذي فتّت وجودنا وبدّد كل امكاناتنا.

لا شك ان الاسباب عديدة، ولكن برأينا ان المصدر الاساس لكل هذه الويلات هو سوء فهمنا وسوء ادارتنا وسوء نظرتنا لمعتقداتنا الدينية. والدليل البيّن على ذلك هو ظننا الخاطئ ان الشعوب وجدت لخدمة المبادئ والعقائد! بينما المنطق والعقل والحس المشترك يقول ان المبادىء وجدت لخدمة الانسان وليس العكس ابدا.

"الدين وجد اذا لتشريف الانسان وليس الانسان لتشريف الدين"، كما يقول احد كبار علماء الاجتماع.

والديانات اتت لرقي الانسان ولنقاء روح الانسان ولسلام الانسان مع اخيه وليس العكس.

اما نحن فقد جعلنا من عقائدنا الدينية البيئة المعطلة والمادة الفتّاكة لسلامنا ووعينا وسعادتنا.

ولو رجعنا قليلا في تاريخنا الحديث نجد ان احداث 1840 و1860 و1958 و1975 كلها كانت بذورها الفرقة الدينية والنزاعات الطائفية. وفي كل مرة كانت نتائج هذه الاحداث مدمرة علينا في كل مرافق الحياة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وعلميا واخلاقيا.

جوهر المشكلة يكمن في اننا اقحمنا معتقداتنا الدينية في اللعبة السياسية الجهنمية، فصارت كل القيم والمعايير والموارد بين ايدينا في خدمة السياسة الاعتباطية والسياسيين المستعبدين بحب التسلط والنفوذ والمصالح الخصوصية.

ان انجرار الغالبية الساحقة من شعبنا وراء السياسة والسياسيين انجب لنا اسوأ اشكال العقل السياسي الذي هو "الحزبية الدينية". النفوذ والتسلط السياسي امتدت انيابه ومخالبه الى كل ما في الارض وما في السماء من حولنا. فأصبح رجال السياسة ورجال الدين في معظمهم وجهين لعملة واحدة. الوجه الاول هو المستثمر للوجه الثاني والثاني هو المشرعن للوجه الاول.

هذه العملة المزورة الفاسدة هي السبب الاول في افلاسنا وانهيارنا الى الدرجة التي نحن فيها اليوم. لبنان اليوم مفلس في الاقتصاد، وفي الادارة العامة، وفي الثقافة، وحتى في الفن بكل اشكاله. ان الافلاس السياسي الذي يلف لبنان هو التيار الجارف لكل مرتكزات الحياة اللبنانية، والسياسة الاعتباطية التي يحتضنها الجهل والكراهية عطلت كل مقوماتنا الاجتماعية.

المسيحية والاسلام كلاهما اعلنتا الله انه "محبة" و"رحمن رحيم" ولكن هل ابقت "الحزبية الدينية" في لبنان اية محبة ورحمة في نفوس اللبنانيين تجاه بعضهم البعض؟ (سنخصص شروحات مسهبة حول هذا الوضوع في حلقات مقبلة)

هل ابقت "الحزبية الدينية" مساحة واحدة للقانون العام والحق العام الا ولوّثته بالتدخلات الطائفية والمحسوبيات السياسية؟

ماذا فعلت "الحزبية الدينية" بآثار لبنان. نعم فعلت الاهمال والاستهتار والتجاهل لآعظم وثائقنا التاريخية التي تحكي قصص مجد هذا الشعب وطاقاته الفكرية وابداعاته في رقي الانسانية؟ زعماؤنا الطائفيون حوّلوا التاريخ الجليل الى ركام مهمل. ولكن سيأتي يوم لناظره قريب سوف يلفظهم التاريخ ويرمي بهم على جنبات طرق الحياة والقيامة الاتية على لبنان.

هل أبقت "الحزبية الدينية" مساحة صغيرة جدا للكفاءة والمعرفة في التعيينات للمسؤوليات العامة وخاصة العليا منها؟ ان ذهنية التسلط والنفعية تعرف الوصول الى السلطة السياسية او الادارية. اولئك يصلون ولا يتبوؤن وينالون السلطة وليس المسؤولية.

وهنالك فرق كبير جدا بين الوصولية الى السلطة والنفوذ وبين تولّي المسؤولية العامة. في الحالة الاولى تعم المصالح الخصوصية والاغراض النفعية، اما في الثانية هي بالاحرى بلوغ شرف الخدمة العامة تولّي المسؤولية المنوطة بالقيم الاخلاقية والعلمية.

في عالم البطون التي تشبع والجيوب التي لا تمتلىء لا وجود للحس بشرف المسؤولية ولا بكبرياء العمل (Work pride) ولا باخلاق ومشاعر الخدمة العامة.

الرئيس الاميركي وودرو ولسون الذي لقّبه شعبه "بأب الادارة الاميركية"، بدأ مشروعه باصلاح الادارة الاميركية من باب تعريف وتسمية الموظف الرسمي فدعاه: "الخادم المدني" (Civil Servant) لأن الرئيس ولسون كان يعتبر ان شرف المواطنين وكرامة المهنة يتطلب من المسؤول العام ان يكون خادما امينا وشفافا في كل لحظة من حياته تجاه شعبه ودولته.

بينما الموظف العام في الدول المتخلفة كلبنان يعتبر نفسه "بك" مدني او "باشا" مدني، يحترف أساليب إذلال وتشليح المواطن المسكين الآتي اليه لاتمام معاملة. بكل صدق نقول ان مرد ذلك هم حاضنيه في اعالي "الحزبية الدينية" الذين اوصلوه وعلّموه اصول "الشطارة اللبنانية".

اولئك المعلمون الكبار في فنون الاستثمار الطائفي والمصالح الخصوصية يوصلون اتباعهم ومحاسيبهم لكي تظل الوظيفة العامة بقرة حلوب لهم ولأولادهم واحفادهم وازلامهم حتى نهاية الزمن...

(والى حلقات مقبلة)
theme::common.loader_icon