«البيت الأصفر»... الزاوية المفتوحة على ذاكرة بيروت
«البيت الأصفر»... الزاوية المفتوحة على ذاكرة بيروت
راكيل عتيِّق
جريدة الجمهورية
Tuesday, 04-Oct-2016 00:04
«بيت بركات» أو «المبنى الأصفر» أو «مبنى السوديكو»، ذاك الجميل بشكله المُدمّر جاذباً نظرات الحنين، الكائن في زاوية الوصل بين شرايين بيروت التي تنبع كلّها من الذاكرة، أصبح «بيت بيروت»، كلّ بيروت، بعد أن كان من مراكز الفصل بينها. بيت يحوي الذاكرة، ذاكرة ما قبل الحرب بحكايته وقصص ساكنيه، وذاكرة الحرب التي تركت آثارها في بنياه وتغلغلت بين أعمدته فطبعته بشظاياها ومتاريسها ودمائها وفجواتها واختلافاتها... وعِقدها. فيه يرى البعض أنفسهم وماضيهم، ومنه يرون الجهة الأخرى بعين قناص الحياة أو الموت. فيه يتعرّف البعض الى ماضٍ سمع عنه أو لم يقرأه ومن زاويته يقرأ بين سطور بيروت شارعاً شارعاً.
«بيت بيروت» هو ما يُعرف بـ«البيت الأصفر» الكائن على تقاطع السوديكو-بشارة الخوري في بيروت، والذي تمّ تحويله إلى متحف ومركز ثقافي مُدني.

وأنهت بلدية بيروت أخيراً المرحلة الأولى من تحويل هذا المبنى إلى مركز ثقافي، وهي الترميم المعماري، وأعلنت عن البدء بإعداد الإطار القانوني لـ«بيت بيروت»، على أن يُعاد تجهيزه وملؤه بالمحتوى الثقافي.

ذاكرة بيروت

الهدف من تحويل «مبنى السوديكو» إلى «بيت بيروت» هو الحفاظ على التراث الهندسي وإيجاد مكان للذاكرة ومنصة للتبادل الثقافي والبحث المدني.

هذا المبنى الذي تخطى عمره التسعين عاماً، وسُمّي بـ»المبنى الأصفر» بسبب الحجر الرملي الأصفر الذي استُخدم لبنائه، استُخدم كمركز للمقاتلين والقنّاصين خلال الحرب اللبنانية، ما أدّى إلى تدميره وتشويهه. وحافظ التصميم الهندسي الجديد لهذا المبنى عليه كما هو ليبقى شاهداً وحافظاً لذاكرة بيروت العمرانية والاجتماعية قبل الحرب وخلالها.

شظايا الرصاص والقذائف، المتاريس أو «دشم» المقاتلين، كتابات المقاتلين على الجدران، دهان الجدران، الجدران المتصدّعة... هي جراح البيت وزينته وجزء من ذاكرته. بيت خرج من الحرب، نفض الغبار عنه وترك الندوب من دون تجميل لتبقى الجروح شاهدة وحافظة للذاكرة.

بقي البيت الأصفر صامداً في موقعه الاستراتيجي حاملاً تاريخاً يمتد من العام 1924 لغاية اليوم. تاريخ بيروت العمراني والاجتماعي.
من على سطح مبنى «بيت بيروت» ومن داخله ومن كلّ طابق فيه ترى تفرّعات الشوارع التي تنطلق منه وتصبّ فيه.

«بيت بيروت» سيصبح مركزاً ثقافياً متكاملاً يضمّ متحفاً، مكتبة ومركز أبحاث، مرصداً حضرياً، قاعة مؤتمرات ومحاضرات، صالات للمعارض الثقافية والفنّية الدائمة أو المتغيّرة ومطعماً ومتجراً لبيع الهدايا، وذلك بعد الانتهاء من إعداد الاطارين القانوني والاداري للمركز وتجهيزه بالمحتوى الثقافي. وتتوقع بلدية بيروت الانتهاء من كلّ هذه الأعمال وفتح المركز أمام الباحثين والزائرين في أواخر العام 2017.

بيت القناصين

«البيت الأصفر» كان ملكاً لعائلة بركات، التي كلّفت المهندس المعماري البارز يوسف أفتيموس ببنائه في بيروت، في العام 1924 خلال فترة الانتداب الفرنسي. فابتكر افتيموس تصميماً مميَّزاً مبنياً على الزاوية المفتوحة، ركيزة المنزل التي منحت الغرف الداخلية إطلالة على الخارج.

وفي العام 1932 أضاف المهندس فؤاد قزح طابقين إلى المبنى وقام بتعزيز التقنيات المعمارية المستخدَمة التي جمعت تأثيرات عثمانية ومحلية وغربية. وفي المبنى نفسه حجر رملي وباطون، ما يجعل من المبنى بحدّ ذاته تأريخاً لتطوّر الهندسة المعمارية لبيروت.

وبحكم موقعه الاستراتيجي على أبرز خطوط التماس في بيروت بين ما كان يُعرف ببيروت الغربية وبيروت الشرقية، احتلّه القناصون بعد أن هجره ساكنوه مع بداية الحرب في لبنان عام 1975.

زاويته المفتوحة وهندسته الشفافة جعلت منه قاعدة آمنة للقناصين، الذين استطاعوا التمركز داخله محميّي الظهر، ومحظيّين برؤية بانورامية واضحة للخارج، تؤمّن القنص السهل.

لم يسلم المبنى الخارج مشوَّهاً وشبهَ مدمَّر من الحرب اللبنانية عام 1990 من النهب والسرقة وأعمال التخريب، وكان سيلقى مصير الهدم على أيدي مالكيه في أوائل التسعينات، لولا الحشرية العلمية لإحدى المهندسات، التي رصدت بنظرة القناص تغييراً بهيأة المبنى.

فاستطاع المجتمع المدني بالتعاون مع الصحافة إنقاذ المبنى من الزوال والضغط على بلدية بيروت لاستملاكه كي لا تزول الذاكرة، وكي لا يغيب التاريخ، وكي لا تُردم قصصُ ناس بيروت.

صدر مرسوم استملاك المبنى عام 2003 وتمّ شراء المبنى من قبل بلدية بيروت عام 2008 بـ3 ملايين دولار. ووفقاً لأحكام المرسوم رقم 10363 يستفيد المبنى من عمليات تجديد وتوسيع.

وفي العام 2008 وقّعت بلدية بيروت إتفاقية تعاون مع بلدية باريس تشمل الدعم التقني لإنجاز أعمال المتحف المعمارية، الإدارية والثقافية. في العام 2009 تمّ تشكيل لجنة استشارية علمية للمبنى ممثلة للمجتمع المدني. وفي العام 2012 تمّ تلزيم تنفيذ المشروع وبدء أعمال البناء التي انتهت أخيراً.

متحف بيت بيروت

بلغت كلفة التجهيز والدراسات للمبنى 18 مليون دولار، وبذلك تكون قد بلغت كلفة شرائه وتجهيزه العمراني 21 مليون دولار أميركي. وقد أضيف إلى جانب المبنى القديم مبنى جديد سيكون مخصَّصاً للأعمال الإدارية وللباحثين يتكوّن من 11 طابقاً، 6 طوابق سفلية، 4 منها للأرشيف المجهّز بكامل التجهيزات التقنية.

ويضمّ المبنى الجديد أيضاً أوديتوريوماً يحوي 200 مقعد للاجتماعات والأعمال المرتبطة بالمركز الثقافي.
أما المبنى القديم القائم، فمكوَّن من 4 طوابق تمّت المحافظة عليها بكلّ تفاصيلها. وسيتمّ استعمال 3 طوابق للمعارض، أمّا الطابق الأرضي فمخصّص لاستقبال الجمهور وربط المبنى بالمدينة، كما سيتمّ إنشاء المطعم على سطحه.

تبلغ مساحة متحف «بيت بيروت» 2300 متر مربّع وعن إعادة تجهيز وتحسين المبنى القديم، يقول مصمّم المبنى المهندس المعماري يوسف حيدر الذي يعمل على المتاحف والمراكز الثقافية في حديثٍ لـ«الجمهورية»: «حافظنا على جميع الآثار الموجودة في المبنى، وعلى بنيته الرئيسة. وبذلك نكون حافظنا على ذاكرة المدينة، إن كان على صعيد ذاكرة الحرب أو ذاكرة الأشخاص الذين مرّوا على هذه المدينة وفي هذا المبنى».

في كلّ طابق من المبنى القديم دائرة زجاجية شفافة في وسط أرضية الطابق يمكن منها رؤية الطوابق الأخرى، ويشرح حيدر رمزيّتها «ندخل من تقاطع طريق الشام وشارع الاستقلال إلى المبنى المرتبط بكلّ شوارع المدينة والمدخل نقطة التقاء أساسية تنطلق منها أدراج المبنى، ويشكّل صلة الوصل لكلّ المبنى حيث يكون للزائر نظرة وحدويّة شاملة للمبنى كلّه». ويشدّد على «فكرة الوحدة والارتباط بالآخر، فالمبنى منفتح على كلّ المدينة».

حكاية إنقاذ ذاكرة بيروت

المهندسة المعمارية منى حلاق، العضو في اللجنة الاستشارية العلمية الممثلة للمجتمع المدني، كانت قناصة الحياة الأولى التي حملت قضية هذا المبنى. وتروي لـ«الجمهورية» حكاية إنقاذه من الهدم.

وتخبر «في أوائل التسعينات مع انتهاء الحرب اللبنانية، كنتُ أسير على الخطّ الأخضر الفاصل بين الشرقية والغربية حينها، ووصلت إلى تقاطع السوديكو ورأيت هذا المبنى القديم المُدمّر، وهو معمارياً مهمّ جداً لأنّ زاوية المبنى مفتوحة على المدينة وتربط بين شوارعها، فلفتني ودخلت لاستكشافه ووجدت «دشم» القناصين وأنا شخص عاش الحرب فتأثرت بوقوفي في مكان قتل فيه الناس بعضهم البعض».

وتروي «في الطابق الأوّل الغربي، كانت هناك عيادة لطبيب الأسنان نجيب الشمالي، ورغم الدمار عام 1994، كانت هذه العيادة ممتلئة بالأغراض المغطاة بالركام... أما المنازل الأخرى فلم يكن موجوداً فيها إلّا الركام».

وجدت منى حلاق في عيادة الدكتور الشمالي، بطاقات من كمال جنبلاط وعبدالله اليافي وصائب سلام وبيار الجميل وغيرهم.... ومن حين دخولها للمرة الأولى إلى المبنى بدأت منى بإخبار الناس عنه وأخذهم لرؤيته، وفي كلّ زيارة كانت «تلملم أوراقاً إضافية من العيادة».

في العام 1997 رأت منى أنه تمّ تفكيك حديد «درابزين البالكونات» بغية هدم المبنى، فذهبت مباشرةً إلى مبنى جريدة النهار ونشرت صورة
ونصاً تحت عنوان «أنقذوا البيت الأصفر من الهدم». ومن حينها بدأت مسيرة المطالبة بعدم هدم المبنى كي يصبح «متحفاً لذاكرة مدينة بيروت، وليس فقط للحرب، لما قبل الحرب وخلالها وبعدها».

جمعت منى أوراقاً كثيرة من عيادة الدكتور الشمالي، منها أرشيف (بروشورات) صالات السينما في بيروت. كما استطاعت إيجاد «كرسي» طبيب الأسنان التي كانت قد سُرقت.

وفي الـ2008 نظّفت البلدية المبنى قبل قدوم الوفد الفرنسي التقني، ووجدوا في المبنى استوديو لمصوّر فوتوغرافي يحتوي على أكثر من 30 ألف «نيغاتيف» صور، فتمّ حفظها. وتقول حلاق «نأمل أن نسترجع قصص أولئك الأشخاص، وأن يأخذها 30 فناناً أو شخصاً لبنانيّاً وأن يبحث عن قصة كلّ شخص في الصور ويعيد قصته إلى المتحف».

رغم الرضى بالمحافظة على «البيت الأصفر» فإنّ لمنى حلّاق واللجنة الاستشارية تحفظاتٍ على المشروع الهندسي الجديد لأنّ «الفرق قاسٍ بين المبنيين القديم والجديد، واللغة المعمارية للمبنى القديم قاسية وعدائية»، وتقول منى «عندما رأيت المبنى عام 1994 وكان مدمَّراً كان مسالماً أكثر من اليوم، كان يتميّز بجمالية رغم الهدم».

وتطلب منى من الناس «تزويدنا بكلّ ما يرتبط بهذا المبنى من قصص، قصص تجمع ولا تفرّق».

لمتحف «بيت بيروت» موقع استراتيجي، يتفرّع منه طريق الشام الذي يوصل إلى صيدا أو إلى وسط المدينة، إلى الخندق الغميق والباشورة ومار الياس أو إلى الأشرفية وساسين وأوتيل ديو... موقع جامع وتقاطع يوصل قلب المدينة بأطرافها كافة، شرقاً وغرباً جنوباً وشمالاً.

ليكون جرحُ الماضي العاري من أقنعة التجميل «المعلّم» في الذاكرة كي لا يكون المستقبل نسخة عن ماضي التفرقة «عالمفرق»، بل نقطة جامعة للتقاطعات الحضارية البيروتية واللبنانية على «تقاطع» السوديكو.
theme::common.loader_icon