اللاوعي... في حياتنا اليومية
اللاوعي... في حياتنا اليومية
د. أنطوان الشرتوني
جريدة الجمهورية
Monday, 15-Feb-2016 00:00
منذ حوالى مئة عام، تحدّث طبيب أعصاب نمسوي عن تصرّفات الإنسان وحَلّلها، ورأى أنّ هناك تصرّفات واعية وأخرى لاواعية. هذا الطبيب هو سيغموند فرويد، أب التحليل النفسي، وهو أوّل من تكلّم عن مفهوم الوعي ومفهوم اللاوعي. وحتى يومنا هذا، كثيراً ما نستعمل، في حديثنا مع الآخرين، مفردات وجملاً فيها مفهوما «الوعي واللاوعي». فما هو تفسيرهما؟ وهل يمكن حقاً أن يقوم الإنسان بأيّ فعل بلا وعي؟ وما هي العلاقة بين الوعي واللاوعي في حياة الإنسان؟
كثير من علماء النفس والفلاسفة تحدثوا عن مفهوم اللاوعي عند الإنسان، كما فسّروا أهميته وارتباطه بردّات فِعل الإنسان النفسية وأفعاله اليومية.

ما هو اللاوعي؟

اللاوعي مصطلح يستعمله أهل علم النفس والطبّ النفسي لوصف العمليات العقلية والأفكار والمشاعر التي تدور في عقول الناس من دون إدراكهم. وكان الطبيب النفسي، شاركو، أوّل من تحدّث عن هذا الموضوع من خلال عمله مع أشخاص مصابين بالهستيريا، فاستعمل التنويم المغناطيسي لدراسة مشاعرهم وأفكارهم اللاواعية، والتي أثّرت في ظهور المرض النفسي أو الإضطراب النفسي.

وكان فرويد تلميذاً لطبيب الفرنسي جان مارتن شاركو، وطوّرَ مفهوم اللاوعي من خلال الطريقة التحليلية للعلاجات النفسية من دون اللجوء إلى التنويم المغناطيسي في غالب الأحيان. وطبعاً، الطريقة التحليلية لم تساعد فقط في اكتشاف عالم اللاوعي عند كلّ إنسان، لكنها ساعدت أيضاً في فهم الإنسان الذي لا يعاني اضطراباً أو مرضاً نفسياً.

فرويد واللاوعي

إهتمّ فرويد بشكل كبير بتحليل الإنسان وفهمه، فحلّل آراءه وفسّرها من خلال الاستِدلال بالأحلام. ويعني ذلك أنّ الأحلام مكان يجتمع فيه اللاوعي ويقدّم ما لديه من ردّات فِعل.

مثلاً، إذا مرّ شخص بيوم عصبي وتشاجَر مع العديد من الأشخاص كما شعر بآلام جسدية... فستترجم كلّ ردات فعله اللاواعية أثناء نومه من خلال حلم. وذهب بعض العلماء إلى أبعد من ذلك، حيث اعتبروا أنّ اللاوعي هو حجّة لتبرير الغايات والسبل للوصول الى الأهداف التي يتمنّاها الإنسان بطرق غير مشروعة.

اللاوعي والوعي

اللاوعي والوعي مرتبطان بشدّة بالإنسان وحاجاته، وخصوصاً بأحلامه. وتتخزّن حاجات الانسان والأحداث التي يمرّ بها منذ طفولته، إمّا في الوعي فيستخدمها بشكل يومي، وفي اللاوعي يقوم باستخراجها من خلال الأحلام أو طرق أخرى، ومنها زلّات اللسان مثلاً.

وكمحلّل نفسي، أنصَح الجميع بعدم المبالغة أبداً في تفسير أفعال الإنسان، بل يجب معرفته، فكلّ الأحداث التي مرّت في حياته وحاجاته ومشاكله تتحوّل إلى أحلام أو نسيان أو حتّى إلى مشاكل صحيّة، وربما إلى بعض الاضطرابات النفسية أو الانحرافات السلوكية.

إلى ذلك تؤدي الإسقاطات (Projections) دوراً مهماً في تعاملنا مع الآخرين، فعندما نلتقي شخصاً جديداً ونتكلم معه للمرة الأولى، تحدّد الإسقاطات إذا ما ستكون علاقتنا معه في المستقبل جيدة أو سيئة. مثلاً، إذا التقينا شخصاً عند صديق، نراقب في بادىء الأمر تصرّفاته أو إيحاءاته، أي طريقة كلامه، طَرحه للأسئلة، وربما شكله الخارجي، أو حتى لون حذائه...

بعد هذه المراقبة، نُسقط على هذا الشخص بشكل مباشر أو غير مباشر علاقاتنا السابقة أو تجاربنا النفسية القديمة أو الجديدة بطريقة لاواعية: فإذا كانت هذه العلاقات أو التجارب النفسية إيجابية، تكون علاقتنا معه إيجابية ومواقفنا تجاهه جيدة ومحبّبة ونُكوّن صداقة معه.

أمّا إذا كانت هذه العلاقات أو التجارب النفسية سلبية، فإنها ستؤدي إلى علاقة سلبية معه وتكون مواقفنا تجاهه سيئة وغير محبّبة ولا نكوّن صداقة معه. هذا ما نسمّيه في علم النفس الإسقاط الذي يؤدي دوراً أساسياً في حياتنا اليومية وفي كل المجتمعات الإنسانية.

اللاوعي الجماعي

بعد تفسير اللاوعي الفردي، نتطرّق إلى اللاوعي الجماعي، وهو أيضاً خبرات ورموز اكتسبها الإنسان عبر الأجيال وباتت مرسّخة في اللاوعي لديه، وهي مشتركة بين كلّ البشر. تكمن أهمية اللاوعي الجماعي بكونه يحمل خبرات أو معتقدات مشتركة لدى شعب معين أو جماعة معينة، تحدّد سلوكه أو تصرفاته وأفعاله. تأخذ غالبية هذه الخبرات والرموز مكاناً في الأساطير والقصص الشعبية، وكل الشعوب تتقبّلها وتتابعها، فلا زمان ولا مكان لللاوعي الجماعي.

مثلاً: موت الشخص الشرير، «يُفرح» أي إنسان على وجه الكرة الأرضية، لأنه اكتسب في اللاوعي، عبر الأجيال، أنّ الموت هو عقاب الشخص الشرير المحبّ للضغينة.

أوّلُ من تكلّم عن اللاوعي الجماعي كان الطبيب النفسي كارل يونغ، واعتبر أنّه الذاكرة الثقافية الجماعية، فيها المخزون المعرفي الأسطوري والسلوكيات الممارسة من قبل أسلافنا.

والأخطر في مفهوم اللاوعي الجماعي هو عندما يغلّب العقل الانفعالي على العقل المنطقي في سلوك الفرد والجماعة، فيعطّل العقل المنطقي. ونلاحظ أنّ هذا التعطيل يقوده شخص واحد خصوصاً في أوقات الأزمات، أو عندما تظهر مشكلة ما إجتماعية أو فكرية... فاللاوعي الجماعي هو الذي يفرض غالباً التصرفات غير العقلانية، والتي تسبّب مشاكل مع جهات مختلفة.

وأخيراً، تؤدي الوسائل الإعلامية والإعلانية دوراً بارزاً في إظهار اللاوعي الجماعي، وطبعاً في انحرافه، لأنّ المسؤولية الإعلامية والإعلانية لا يضاهيها أهمية في إطار هذا اللاوعي.
theme::common.loader_icon