هل يُمكن حكم لبنان إقتصادياً؟
هل يُمكن حكم لبنان إقتصادياً؟
بروفسور جاسم عجاقة
جريدة الجمهورية
Saturday, 17-Oct-2015 00:04
أثبت التاريخ فشل السياسة في تنمية المجتمع اللبناني وإقتصاده بشكل مُستدام. وإذا كان الدخل الفردي قد ارتفع خمسة أضعاف منذ العام 1992، إلّا أنّ هذا الإرتفاع ليس مُستداماً والمطلوب اليوم أن يكون هناك حكم إقتصادي لا سياسي.
هيكلية الاقتصاد اللبناني مبنية بالدرجة الأولى على قطاعات السياحة والمصارف والعقارات وتحويلات المُغتربين. كلٌّ من هذه القطاعات إستطاع المُساهمة بالناتج المحلّي الإجمالي بحسب قدرته والظروف التي واكبته. وشكّل القطاع المصرفي وتحويلات المُغتربين أساس النموّ المُستدام في الاقتصاد اللبناني والذي سمح بالحفاظ على مستوى ثابت من الناتج المحلّي الإجمالي.

ويعود هذا الفضل إلى إعفاء هذين القطاعين من الإنقسامات السياسية، فالقوانين المصرفية لجمت التدخلات السياسية في القطاع المصرفي وحمته من هشاشة النظام السياسي القائم ومن تدخّلاته كما أنّ تحويلات المُغتبرين لم تتأثر بالأحداث اللبنانية على مرّ الأعوام بل كانت مُستمرّة على وتيرة ثابتة إلى تصاعدية بحكم أنّ الأموال المُرسَلة هي لذوي المغتربين.

أمّا القطاع السياحي فقد تميّز بقدرته على جلب المغتربين بغضّ النظر عن الوضع السياسي أو الأمني (بإستثناء عدوان 2006)، لكنه فقد من قدرته على جلب السياح الأجانب وخصوصاً العرب وما للسائح الأجنبي من قدرة على الإنفاق خلال سفره. وهذا الأمر يُعَدّ خسارة كبيرة للبنان نظراً إلى السيولة العالية التي كانت تؤمّنها السياحة للإقتصاد اللبناني.

أمّا القطاع العقاري فقد كان شبهَ ميت أثناء الحرب الأهلية ليعود ويعيش موجتين من النموّ الكبير تمثلتا بدفع هائل للناتج المحلي الإجمالي وذلك في الفترة المُمتدة من العام 1992 إلى العام 1998 ومن العام 2007 إلى العام 2010.

وخلال هاتين الفترتين تمّ ضرب الدخل الفردي بخمسة أضعاف تحت تأثير فورة العقارات المدعومة بـ: الإستثمارات الخارجية في هذا القطاع، إستثمارات المُقيمين مدعومة بتحاويل المغتربين والتمويل المصرفي، وأخيراً القطاع السياحي الذي عاش أفضل أمجاده في هذه الفترات نتيجة الهدوء الأمني.

هيكلية الاقتصاد اللبناني: القطاع الأوّلي

تتمركز الزراعة في لبنان في سهل البقاع والسهول قرب الساحل، وتُساهم الزراعة بنسبة 5.1% من الناتج المحلّي الإجمالي وتستخدم ما يُقارب الـ 12% من اليد العاملة. ويتضمّن الإنتاج: الحمضيات، العنب، البندورة، التفاح، الخضار، البطاطا، الزيتون، التبغ والقمح.

لكنّ القطاع الزراعي بقي بدائياً في طرق الريّ والوسائل المُستخدمة في الزراعة وذلك بفعل هشاشة القطاع كنيجة للحرب الأهلية والفلتان الأمني خصوصاً على الحدود. وبالتالي لم يتمّ إستخدام قدرة لبنان الزراعية كما يحب.

القطاع الثانوي

تُعَدّ الصناعة اللبنانية مُساهماً كبيراً في الناتج المحلّي الإجمالي مع مساهمة تتخطى الـ 20%. ويُوظف القطاع الصناعي أكثر من 26% من اليد العاملة وتُعتبر الصناعات التحويلية من أكثر الصناعات تطوّراً. لكن وكما في القطاع الأوّلي، يعاني القطاع الصناعي من حال عدم الثبات السياسي والأمني وبالتالي تراجع الإستثمارات. ومن الصناعات اللبنانية يُمكن ذكر الصناعة الغذائية، النبيذ، المجوهرات، الإسمنت، الألبسة، الخشب، وتصنيع المعادن.

قطاع الخدمات

يُعَدّ قطاع الخدمات مع السياحة والقطاع المصرفي، العمود الفقري للإقتصاد اللبناني مع مساهمة بنسبة أكثر من 76% من الناتج المحلّي الإجمالي مع توظيف أكثر من 65% من اليد العاملة، ويحوي هذا القطاع تحاويل الأموال من المغتربين اللبنانيين.

وعلى الرغم من هذه الأهمية، يعاني قطاع الخدمات من الوضع الأمني والسياسي، حيث إنّ الكثير من الفنادق والمطاعم أقفل أبوابه كحال فندق مونرو الذي سيُغلق أبوابه في نهاية هذا العام.

ومن المُتوقع أن يرتفع نموّ هذا القطاع بنسب 7 إلى 10% إذا ما تمّ تحقيق ثبات سياسي وأمني في البلاد. وبالتالي فإنّ هذا القطاع يظلّ من أكثر القطاعات المطلوبة من المُستثمرين.

الهيكلية المُستقبلية

يُشكل التضخّم مؤشراً أساسياً في تقييم المشاكل التي تعترض بلداً معيناً. وفي حالة لبنان، هناك مشكلة ظهرت حالياً ألا وهي إنخفاض التضخّم ما يعني أنّ الاقتصاد مُتّجه إلى الإنكماش (deflation). وهذا الأمر مُبرَّر بضعف الإستثمارات الأجنبية المُباشرة بشكل كبير نسبة إلى الأعوام الماضية (-23% في العام 2013، +6% في العام 2014 - حركة تصحيحية).

كما أنّ الإستثمارات الداخلية تراجعت بنسبة 24.7% في الأشهر الثمانية الأولى هذا العام نسبة إلى العام السابق. أضف إلى ذلك أنّ الإستهلاك في تراجع مُستمرّ وبحسب جمعية تجار بيروت تراجع بنسبة 15% منذ مطلع هذا العام ما يعني أنّ الإستثمارات ستقلّ كنتيجة لإقفال مؤسسات خدماتية متعدّدة ما يعني تراجع الناتج المحلّي الإجمالي.

وبالتالي لا يُمكن لهذا الواقع إلّا الإستمرار على هذا النحو إلى حين تبدّل الوضع الأمني والسياسي وهذا ما لن يحدث إلّا في ظلّ تسوية للأزمة السورية.

حكم إقتصادي

أثبتت السياسة فشلها في التنمية الاقتصادية والإجتماعية مع تراجع الاقتصاد وزيادة الفقر في الكثير من المناطق اللبنانية. وإذا كانت مُشكلة النزوح السوري قد فاقمت الوضع سوءاً، إلّا أنّ عجز القرار السياسي عن لجم تداعيات هذا النزوح أوصل لبنان إلى الواقع الحالي الذي يُعَدّ الأسوأ منذ الحرب الأهلية (75-90).

ويُخبرنا التاريخ أنّ عزل القطاع المصرفي عن السياسة بواسطة قوانين حديثة، سمح لهذا القطاع بخلق عازل عن التدخّلات السياسية والأزمات المالية والسياسية والأمنية. لكنّ المفاجأة كانت في أنّ هذا القطاع إستمرّ في دعم الدولة اللبنانية والإقتصاد في وقت حرج كان ليكون نهاية النظام الحالي لولا وجود المصارف.

أيضاً نرى أنّ تحاويل المُغتربين اللبنانيين شكلت رافعة للإقتصاد اللبناني عبر دعم الإستهلاك والإستثمار. وكان لهذه التحاويل فضل أساس في النموّ بين الأعوام 2007-2010. بالطبع لم تستطع السياسة الدخول إلى هذا القطاع وبالتالي ظلّ حصناً للإقتصاد على رغم كلّ العواصف.

لذا المطلوب اليوم تعميم هذا النموذج على القطاعات الاقتصادية الأخرى كافة وذلك عبر لجم يد السياسة في الاقتصاد وعدم إستخدام الاقتصاد كوسيلة للضغط السياسي. هذا يعني أن تكون القطاعات الأوّلية والثانوية وقطاع الخدمات مُحصّنة بقوانين شبيهة بقوانين القطاع المصرفي تسمح للحكومة اللبنانية بالتدخّل فقط على صعيد ماكرو أيْ دعم قطاع وليس التدخّل في التفاصيل.

هذا الأمر يتطلب بالطبع قوانين من مجلس النواب تسمح لكلِّ قطاع بإطلاق تعاميم تنظيمية مع إحتفاظ حقّ الدولة بالإعتراض في حال كان الأمرُ مُخالفاً للقانون أو الدستور اللبناني. نعم لقد آن الآوان في لبنان لحكم إقتصادي يُغيّر الواجهة الاقتصادية والإجتماعية اللبنانية بمعزل عن السياسية.
theme::common.loader_icon