«المسيح بعد الصلب»... بدر شاكر السيّاب يستوحي النصّ الإنجيلي
«المسيح بعد الصلب»... بدر شاكر السيّاب يستوحي النصّ الإنجيلي
اخبار مباشرة
طوني عيسى


من المؤكد أنّ بدر شاكر السيّاب، المولود في بلدة جيكور العراقية، في العام 1926، تعرّف إلى مشهد الصلب ومقدماته (العشاء الأخير...) ومُستتبعاته (القيامة...)، وعلى الأرجح من خلال مصدرين مبدئيّين:
الأوّل من القرآن الكريم الذي أورد في سورة النساء ما يأتي:
«وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا 157 بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيماً 158 وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً 159«.
والثاني من البيئة العراقية المتأثرة جداً، خصوصاً في زمن كتابة القصيدة (1957) بالتراث المسيحي الأشوري والكلداني.
كان السيّاب شغوفاً بالبحث عن رموز الموت والانبعاث، يستخرجها من التراثات المشرقية، خصوصاً بعد دراسته الأدب الإنكليزي وتعرّفه إلى قصيدة «الأرض الخراب» للشاعر ت. س. إليوت بلغتها الأصلية. فهذه القصيدة تدور أيضاً على محور له صِلة غير مباشرة بالعشاء الأخير، هو ضياع الكأس المقدّسة.
كما أنّ صديق السيّاب، الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، عرّب جزءاً من كتاب «الغصن الذهبي» للإنكليزي جيمس فريزر، وهو يتضمّن خصوصاً بحثاً في أسطورة أدونيس - تموز، وتأثر به السيّاب في قصيدة «أنشودة المطر» التي نشرها في الديوان الحامل التسمية عينها.
وفي هذا الديوان، نشر أيضاً قصيدته «المسيح بعد الصلب». ولا بدّ أن يكون السيّاب، الباحث في رموز الموت والإنبعاث المشرقية في المؤلفات الإنكليزية، قد بدأ بالتعرّف إلى المسيح من خلال الأناجيل، قبل ذلك بكثير.
الأناجيل: مشهد الصلب وما قبله وما بعده
تروي الأناجيل الأربعة، ببعض التفاوت في التفاصيل، وقائع الأيام الأخيرة للمسيح: العشاء الأخير مع تلامذته، وخيانة يهوذا له بتسليمه للجنود مقابل ثلاثين من الفضة، ثمّ شعور يهوذا بالندم بعد صدور الحكم على المسيح بالموت. وهذا الشعور قاده إلى الانتحار شنقاً قبل موت معلِّمه. وتروي الأناجيل كيف أُهينَ المسيح وتعرّض للتعذيب قبل الصلب وعلى الصليب، وكيف أسلمَ الروح وهو مصلوب.
ثم تروي الأناجيل تفاصيل ما جرى بعد الصلب: حضور النسوة إلى المكان، لفّ جسد المسيح بالكفن ودفنه في قبر سُدَّ مدخله بحجر. وفي اليوم الثالث، فوجئت مريم المجدلية وبعض الرسل بأنّ القبر فارغ، فظنوا أنّ أحداً سرق الجثمان. لكنّ المسيح ظهر لهم وكشف عن الجروح التي أصابته خلال عملية الصلب، فصدقوا أنه قام من القبر. إلّا أنّ واحداً منهم، هو توما، لم يصدّق ذلك إلّا حين وضع إصبعه في الجرح ليلمسه لَمس اليد.
التناصّ بين قصيدة السيّاب والعهد الجديد
يمكن تقسيم حياة السياب الأدبية إلى أربع مراحل: الرومانسية 1943- 1948، الواقعية 1949- 1955، التموزية أو الواقعية الجديدة 1956- 1960، وخلالها كتب قصيدة «المسيح بعد الصلب»، والذاتية 1961-1964. وتطوّرَ قلق السيّاب الوجودي، المطبوع بهوس البحث عن أسرار الموت والانبعاث، فكتبَ قصائد «مسيحية» عدة، بدءاً من العام 1953.
ولذلك، لم تكن استعانة السيّاب بالأناجيل جديدة عندما كتب قصيدته «المسيح بعد الصلب» في العام 1957. ولم تكن المرة الأولى التي يتلبّس فيها شخصية المسيح نفسه. لكنه في هذه القصيدة تجاوزَ الاستعانة بالرمز ليجعل الرواية الإنجيلية محور القصيدة كلها، بدءاً من عنوانها.
ويستوحي السيّاب في هذه القصيدة ثلاثاً من حالات المسيح في أيامه الأخيرة على الأرض، وهي الصلب والفداء والقيامة التي لا يمكن بلوغها إلّا بالموت. وهو فيها تماهى مع المسيح لينقل صورة المعاناة التي يتكبّدها الشاعر في نضاله لبعث أمّته. ولذلك، أضفى السياب على صورة المسيح بعضاً من ملامح تجربته الذاتية، وتوحّدت الشخصيتان في القصيدة.
و«تجربة القصيدة في مضمونها العارم تُصوّر تضحية الشاعر في سبيل أمّته، واستشهاده في سبيل بعثها، مستغلاً في ذلك فكرة صلب المسيح وفدائه للعالم، أو حياة العالم من خلال موته.
وفكرة البعث من خلال الموت افتتنَ بها السيّاب، وأصبحت تمثّل عنصراً هاماً من عناصر الرؤية الشعرية». ويرى الدكتور إحسان عباس أن ّهذه القصيدة «شديدة الإضطراب، تتعاقب فيها صوَر مستمرة من قصة المسيح على غير انتظام، والشاعر يتّخذ المسيح رمزاً للتعبير عن حاله النفسية، ولذلك فهو المصلوب الذي استطاع أن يقوم من بين الموتى وينعش الحياة في جيكور».
لكنّ الرؤية التي تحكم التعبير عن تجربة المسيح في هذه القصيدة ليست إنجيلية تماماً، لأنّ فيها العديد من العناصر والوقائع المخالفة للرواية الإنجيلية، بل هي تناقضها. لذلك، «لا تبدو محاسبة الباحث الشاعر بناءً على معايير مسيحية ملائمة، كما يظهر ذلك في تعليقه على بعض أبيات من القصيدة».
ويقول إيليا حاوي، في هذا المجال، إنّ السيّاب يورد في القصيدة مشاهد «تجسّد الإله في الطبيعة وإقامة الشاعر في الشمس، والأرض والماء، وهذه ليست من طبائع المسيح». ولذلك، هو «تلقّفَ الرموز المسيحية من الخارج» وفاتَته روحانيتها.
المسيح يُنزَل عن الصليب... ولكن قبل أن يموت
مع الكلمات الأولى من القصيدة، يظهر التأثير الأول للرواية الإنجيلية على السيّاب. فالقصيدة تنطلق من مشهد ما بعد الصلب، إذ تمَّ إنزال المسيح عن الصليب. وإذ جاء في الرواية الإنجيلية أنّ المسيح مات على الصليب قبل إنزاله، فهو في قصيدة السيّاب لم يكن قد مات بعد، وكان قادراً على الإدراك والحسّ.
وواضح أنّ الشاعر أراد إضفاء هذه الميزة على المسيح ليتمكن من إقحام مشروعه الوجداني، أي الشعور بمأساة المدينة التي هي جيكور في المبدأ، لكنها تختصر الأمة جمعاء رمزياً:
«بعدما أنزلوني، سمعتُ الرياح في نواح طويل تسفّ النخيل والخطى وهي تنأى.
إذاً فالجراح والصليب الذي سمّروني عليه طوال الأصيل لم تُمتني، وأنصتُّ: كان العويل يعبر السهل بيني وبين المدينة مثل حبل يشدّ السفينة وهي تهوي إلى القاع. كأنّ النواح مثل خيط من النور بين الصباح والدُجى، في سماء الشتاء الحزينة. ثُمّ تغفو على ما تحسُّ المدينة».
في هذا المقطع من قصيدة السيّاب تناصّ إنجيلي. ففي الرواية الإنجيلية، عندما أطلق المسيح صرخته الأخيرة وأسلم الروح، «أظلمت الشمس... وزلزلت الأرض وتشققت الصخور وتفتّحت القبور».
ويقول السيّاب، بصوت المسيح، إنّ الرياح كانت تنوح، في استدعاء لمشهد النسوة، وفي مقدمهنّ المريمات، اللواتي حضرن إلى مكان الصلب وكان نواحهنّ يمتزج بصراخ المصلوبين الآخرين، ومنهم لصّان على يمين المسيح ويساره ماتا بعده، وبعويل الريح وهدير الزلزال وتشقق الصخور. (متى 27):
«55 وَكَانَتْ هُنَاكَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُنَّ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ الْجَلِيلِ يَخْدِمْنَهُ،
56 وَبَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّة، وَمَرْيَمُ أمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي، وَأمُّ ابْنَيْ زَبْدِي».
ويختم السياب قصيدته كما افتتحها بمشهد الصلب:
«بعد أن سمّروني وألقيت عينيّ نحو المدينة كدت لا أعرف السهل والسور والمقبرة كان شيء مدى ما ترى العين كالغابة المزهرة كان في كلّ مرمى صليب وأم حزينة».
لكن السياب «يُعَرْقِن» المشهد. فالنخيل ليس مذكوراً في رواية الصلب الواردة في الكتاب المقدس، وإن يكن مذكوراً في روايات أخرى، ومنها يوم دخول المسيح إلى أورشليم حيث استقبلته الجموع «بسعف النخيل» (يوحنا - 12: 13). لكنّ النخيل في قصيدة السيّاب يبدو على الأرجح عراقياً بامتياز. وهنا يبدأ الشاعر ربط الصورة الإنجيلية بأرض معاناته في جيكور.
ويضيف: «كان العويل يعبر السهل بيني وبين المدينة». فالمسافة الصوتية الرابطة بين موقع الصلب وجيكور، ليس فيها سوى عويل. وربما كان السهل، بالنسبة إلى السيّاب، الماركسيّ الفِكر، يعني له معاناة المزارعين الكادحين، المتألِّمين تحت نير الطبقة البرجوازية أو الحكّام.
وفجأة، ينقلب المشهد من مسيحي - إنجيلي إلى أسطوري - أدونيّ: «مثل حبل يشدّ السفينة، وهي تهوي إلى القاع». ويبدو أنّ السيّاب هنا لم يستطع مقاومة جنوحه إلى الأسطورة التموزية، فمزجَ بين الموت والانبعاث المسيحيَّين والموت والانبعاث التموزيَّين.
وفي الأسطورة، أنّ أهالي بيبلوس وقبرص كانوا يحملون تمثال أدونيس - تموز خلال احتفالاتهم الطقسية، محاطاً ببواكير الفواكه، ويلقون به في الماء. فتموز هو «إبن المياه العميقة» في الأسطورة. فغرق الإله هو ضرب من ضروب الولادة لأنه يستحيل عودةً إلى ماء الرحم.
ولذلك، يستدرك السياب مؤمناً بوجود ضوء في نهاية الظلام: «كأنّ النواح مثل خيط من النور بين الصباح والدُجى، في سماء الشتاء الحزينة». وهذه الأسطورة كان استوحى منها إليوت شخصية الغريق فليباس، البحّار الفينيقي الغريق.
بين حبّة القمح والعشاء الأخير
في التسلسل الزمني للحوادث الأخيرة في حياة المسيح، قبل الصلب، هو أقامَ لعازر صديقه من الموت، ثم دخل أورشليم واستقبلته الجموع بالشعانين. وهناك أطلق المسيح إحدى أبرز الرموز المؤشرة إلى الموت، بوَصفه باباً للقيامة. فقال في إنجيل يوحنا 12:
«24 الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لَكُمْ: إنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الحِنْطَةِ فِي الأرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ».
وحبّة الحنطة تحوّلت في العشاء الأخير إلى عجين وخبز أوصى المسيح تلاميذه بأن يتناولوه إلى الأبد ليتذكروا موته وقيامته. وفي التقليد المسيحي، بين الشعانين والعشاء السرّي تفصل خمسة أيام. وفي هذا العشاء أيضاً، رفعَ المسيح كأسه وأوصى تلاميذه بأن يشربوا من هذه الخمرة لتكون «دم العهد الجديد».
(مرقس 22:14-26): «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع خبزاً وبارك وكسر وأعطاهم، وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي. ثم أخذ الكأس وشكر وأعطاهم فشربوا منها كلهم. وقال لهم: هذا هو دمي الذي للعهد الجديد يُسفك من أجل كثيرين. الحق أقول لكم اني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديداً في ملكوت الله».
في المقطع الثاني من القصيدة:
«قلبي الأرض إذ تنبض الأرض قمحاً وزهراً وماء نميرا قلبي الماء قلبي هو السنبل موته البعث يحيا بمَن يأكل في العجين الذي يستدير (...)
كنتُ بدءاً وفي البدء كان الفقير متُّ كي يؤكل الخبز باسمي لكني يزرعوني مع الموسم كم حياة سأحيا ففي كل حفرة صرت مستقبلاً صرت بذرة ذرّت جيلاً من الناس في كل قلبٍ دمي قطرة منه أو بعض قطرة».
في هذا المقطع تناصّ بين القصيدة والأناجيل في مَثل حبة الحنطة التي لا تموت إلّا لتأتي بثمر كثير. فهو يسأل: «كم حياة سأحيا؟ ففي كل حفرة صرت مستقبلاً صرت بذرة»، ويستوحي العشاء السري. وهناك أيضاً استعادة لِما ورد في إنجيل يوحنا عن المسيح الكلمة، فيقول: «كنتُ بدءاً وفي البدء كان الفقير». وفي إنجيل يوحنا 2: 1»في البَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، والكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ». هو يريد أن يجزم بأنّ الفقراء الذين يتعذبون سيكونون نواة القيامة.
إشكالية يهوذا وحضوره بعد الصلب
أوردَ السيّاب في قصيدته أنّ يهوذا اصفرَّ وجهه عندما رأى المسيح وقد أنزِل عن الصليب. وهنا مخالفة للمعلومة الإنجيلية عن يهوذا. فالأناجيل تتفق على أنّ يهوذا شنق نفسه ندماً على خيانته المسيح وتسليمه إلى بيلاطس الذي حَكَم عليه بالصلب. ويهوذا هو أحد تلامذة المسيح الإثني عشر.
وفي الأناجيل أنه قبض ثلاثين من الفضة مقابل «بَيعه» معلّمه. ولكنه، عندما أيقن أنّ الحكم قد صدر بصلب يسوع، أصيب بندم شديد دفعه إلى أن ينتحر شنقاً. وفي الموروث المسيحي أنّ يهوذا استطاع بدهائه أن يخفي - لبعض الوقت - طبيعته الحقيقية عن بقية التلاميذ، وأن يقضي على أيّ استياء يمكن أن يحدث بينهم، إلّا أنه شعر هنا بأنه لا يمكن أن يضمن استمرار مصدر دخله. أمّا كلمات سيِّده التي تضمَّنت حديثه عن يوم تكفينه فقد كشفت لمسلِّمه أنّ يسوع قد عرف جيداً نيّاته ضده (متى 26: 12، مرقس 14: 8، يوحنا 12: 7).
لكنّ السيّاب استخدم رمز يهوذا بعد الصلب، على الأرجح لعدم إدراكه بكامل الرواية الإنجيلية، وتحديداً لعدم معرفته بالتوقيت الذي شنق فيه يهوذا نفسه وفقاً للعهد الجديد. هل تمّ ذلك قبل الصلب أم بعده؟
أجرى السياب مواجهة بين المسيح بعد قيامته ويهوذا الذي قاد الأعداء إلى المكان الذي كان فيه المسيح مجتمعاً مع الشعب وأرشَدهم إلى شخصه بتقبيله وحده من دون الآخرين.
«وبينما هو يتكلمُ إذا جمعٌ والذي يُدعى يهوذا أحدُ الإثني عشرَ يتقدمهم فدنا من يسوع ليُقبّلَه. فقالَ له يسوع: يا يهوذا أَبقُبلةٍ تُسلِّمُ إبنَ الإنسان». (لوقا 22: 47 و 48). وفي هذه المواجهة، في قصيدة السيّاب، يقول المسيح عن خائنه:
«هكذا عُدتُ، فاصفرَّ لَمّا رآني يهوذا فقد كنتُ سِرّهْ كان ظلاً، قد اسودَّ، منّي، وتمثالَ فكرةْ جُمّدِتْ فيهِ واستُلّتْ الروحُ منها»
(خافَ أنْ تفضحَ الموتَ في ماء عينيه... عيناهُ صخرهَ راحَ فيها يُواري عن الناسِ قبرَهْ)
ويقول يهوذا لمعلمه:
-«أنتَ! أم ذاك ظلي قد ابيَضَّ وارفضَّ نورا؟ أنتَ من عالمِ الموتِ تسعى! هو الموتُ مرّةْ. هكذا قال آباؤنا، هكذا علّمونا فهل كان زورا»؟
ويقول المسيح قاصداً يهوذا، في القصيدة: «كان ظلاًّ، قد اسودَّ، مني، وتمثالَ فكرَهْ». إذاً، فيهوذا هو الطبعة السوداء للمسيح. وفي لغة التصوير الفوتوغرافي هو الـNegative، هو الظلّ الأسود والنقيض المضاد للبياض، وفكرة ميتة لا حياةَ فيها.
ويردّ يهوذا، إذ فوجيء بشخوص المسيح أمامه: «أنتَ! أم ذاك ظلي قد ابيضَّ وارفضَّ نورا»؟ فيهوذا لا يعترف بالمسيح. يصرخ مستنكراً ومُستكثراً على من يرى أن يكون هو المسيح. والمسيح مات، والموتى لا يعودون من سفرتهم الأبدية. يهوذا هو ظل المسيح الأسود. والمسيح هو ظل يهوذا الأبيض. «إبيضَّ وارفضَّ نورا». (8) والأهمّ هو قوله: «آباؤنا هكذا علّمونا فهل كان زورا». هنا يبلغ التشكيك ذروته.
في المقارنة بين السيّاب والأناجيل، خرج الشاعر تماماً من الواقعة المرويّة في الكتاب المقدس عن يهوذا، لكنه احتفظ بالرمز، أي الخيانة. لقد استوعب الشاعر هذا الرمز وهضمه وتوسّع في تأويله.
مشهد الطعن:
ويعود السيّاب إلى مشاهد عدة من يوم الصلب، ويقول:«فاجأ الجند حتى جراحي ودقات قلبي»، وهنا استدعاء لمشهد الطعن بعد الانتهاء من عملية الصلب. «فأتى العسكر وكسروا ساقي الأول والآخر المصلوب معه». «وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه، لأنهم رأوه قد مات». (يوحنا 19: 32- 33)
وفي الموروث المسيحي، أنّ المسيح مات سريعاً قبل اللصّين، ربما لأنّ جسمه كان نحيفاً، ولأنّ شخصه كان رقيقاً، فلم يتحمّل التعذيب الشديد، أو لعله سمح لنفسه بالموت قبلهما ليدرك الكل أنه مات بإرادته وفي الوقت الذي اختاره. «لكنّ واحداً من العسكر طعن جنبه بحربة، وللوقت خرج دم وماء». (يوحنا 19: 34)
المسيح في القبر ورمزية الفداء
يصِل السيّاب إلى مشهد المسيح في القبر بكامل عناصره: القبر، الصخر، صدري، صلبوني، «رفاق يهوذا من سيصدّق ما زعموا»، المسيح عريان، الظلام، الأقدام، الظن، البرعم بوصفه جرثومة النماء، الأكفان البيض، زهر الدم، الظل، الدجى والنهار...
يقول السيّاب في قصيدته:
«قدم تعدو قدم قدمُ القبر يكاد بوَقع خطاها ينهدمُ أترى جاءوا مَن غيرُهم قدم قدم قدمُ ألقيت الصخرَ على صدري أو ما صلبوني أمس فها أنا في قبري فليأتوا إنّي في قبري من يدري أنّي من يدري ورفاق يهوذا من سيصدق ما زعموا قدم قدمُ ها أنا الآن عريان في قبري المظلم كنت بالأمس ألتفّ كالظن كالبرعم تحت أكفاني الثلج يخضلّ زهر الدم كنت كالظل بين الدجى والنهار».
لكن مسيح السيّاب لا يبدو مستعجلاً القيامة، قبل أن يذكِّر الجميع بأنه هو الذي أقام الأموات في ما مضى. وأمّا صورة البرعم الذي يتفتح في الدفء الربيعي، و«زهر الدم» الذي يطلع من سباته في «أكفان الثلج»، فتبدو أقرب إلى الأسطورة التموزية أيضاً، حيث أدونيس ينبعث مع أزهار الربيع، بعد أن يصرعه الخنزير البري.
وفي القسم الآخر من القصيدة، يستوحي السيّاب المشاهد التي قام فيها المسيح ببعث الموتى من القبور، إذ يتذكّر «كيف في القبر استطاع أن يحيا، يوم منح ذاته للآخرين ويوم مات ليعيشوا، وكيف استحال إلى قوة خالدة غير قابلة للفناء، لأنها قوة إلهية، يوم تفجّرت ذاته كنوزاً يمتاح منها الناس» (9):
«كنتُ كالظلّ بين الدُجى والنهار ثم فجّرت نفسي كنوزاً، فغريتها كالثّمار حين فصّلت جيبي قماطاً، وكمي دثار».
يستدعي السياب هنا ما جاء في الكتاب المقدس، العهد الجديد: «ليتمّ الكتاب القائل اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي اقترعوا» (يوحنا 19: 24).
ويقول الدكتور إحسان عباس: «إمّا أنّ ذلك الشاعر لم يفهم فكرة «الفداء» في المسيحية، وإمّا أنّه فهمها وهو لا يعبأ بالموقف الديني الذي نشأ عليه منها، وإمّا أنّه ـ في سياق الشعر ـ يعد «الفداء» أسطورة من الأساطير، فهو لا يراها حقيقة تاريخية، وفي هذا الموقف الأخير يضيع الحدّ بين الظاهر والحقيقة، أمام عينَي قرّائه، لأنّ الحقيقة حينئذ ذاتيّة تتصِل بضميره الفردي».
وفي كلامه على «رفاق يهوذا من سيصدق ما زعموا»، ثمة تناصّ مع الرواية الإنجيلية، حيث رفض توما أن يصدِّق بأنّ المسيح نفسه هو الذي ظهر له بعد قيامته، فلم يؤمن إلّا بعدما وضع يده في جرح الخاصرة. (يوحنا 20).
السيّاب والتوقيع المسيحي للقصيدة
في المقطع الأخير من القصيدة، يتجاوز السيّاب معيار الرمز الإنجيلي لغايات فنية ليذهب نحو الأسئلة الأكثر عمقاً: هل لامَس الشاعر حدود اقتناعه بقدرة المسيح على القيام بفعِل الفداء. وهذا جوهر الإيمان لدى المسيحيين؟
تفاوتت قراءات النقّاد والباحثين حول هذه المسألة. فالنص الأدبي غالباً ما يترك الأسئلة عالقة. ولكن، يجدر التوقف عند نقطتين في المقطع الأخير:
أ- «حين دفأتُ يوماً بلحمي عظام الصغار حين عريتُ جرحي وضَمدتُ جرحاً سواه حطّم السور الذي بيني وبين الإله».
في السطرين الأولين يعبّر السيّاب عن مفهوم الفداء كما في أي مكان آخر في هذه القصيدة أو سواها، لكنّ السطر الثالث «حطم السور الذي بيني وبين الإله» يثير أسئلة عن الترابط بين الفداء وبين المسيح الذي حطّم السور بينه وبين الله. وجوهر الإيمان المسيحي يقوم على أنّ «الآب والإبن والروح القدس إله واحد في ثلاثة أقانيم». «قُدِّس الربّ هذا مخاض المدينة».
هكذا، بتوقيع ذي طابع مسيحي واضح، يختم السيّاب قصيدته. فعبارة «قُدِّس الرب» جزء من المعجم المسيحي لا الإسلامي.
لقد اتخذ تأثّر السيّاب بالإنجيل شكلاً هرمياً متدرِّجاً من القمة إلى القاعدة. في القمة، اختار السيّاب أن يكون الحدث الإنجيلي الأكثر درامية وفاعلية، أي الصلب والقيامة، محور قصيدته. كما تلبَّس الشاعر شخصية المسيح نفسه ونَطق بصوته.
ثم تدرّج في استدعاء المحاور الإنجيلية الموازية: القرار بالتضحية والفداء من أجل الآخرين (الشاعر رسم لنفسه صورة البطل المنقذ لمجتمعه وشعبه، كما المسيح)، على رغم الخيانة (خصومه السياسيون والأنظمة وأعداء الأمة). هذا القرار يستلزم تقبّل العذاب والموت (فقدان الشاعر وظيفته مراراً لمعاقبته على مواقفه السياسية)، ويقود إلى القيامة (خلاص الأمة).
وأمّا المحور الإيماني المسيحي فيظهر في قصيدة السياب مسألة خاضعة لأحد تفسيرين: التفسير الديني، أي مقاربة الشاعر الإيجابية للمفاهيم الإيمانية المسيحية الأساسية، ولا سيما الفداء.
والتفسير الفني، أي أنّ مقاربة الشاعر للمفاهيم الإيمانية في شكل إيجابي لم يخرج عن الإطار الفني. فالإيمان بالفداء هنا لم يكن سوى جزء من الشحنة الوجدانية التي استخدمها السيّاب لبلوغ غايته. (*) مقتطفات من دراسة مقارنة للتأثير الإنجيلي في قصيدة السيّاب «المسيح بعد الصلب».
كما أنّ صديق السيّاب، الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، عرّب جزءاً من كتاب «الغصن الذهبي» للإنكليزي جيمس فريزر، وهو يتضمّن خصوصاً بحثاً في أسطورة أدونيس - تموز، وتأثر به السيّاب في قصيدة «أنشودة المطر» التي نشرها في الديوان الحامل التسمية عينها.
وفي هذا الديوان، نشر أيضاً قصيدته «المسيح بعد الصلب». ولا بدّ أن يكون السيّاب، الباحث في رموز الموت والإنبعاث المشرقية في المؤلفات الإنكليزية، قد بدأ بالتعرّف إلى المسيح من خلال الأناجيل، قبل ذلك بكثير.
الأناجيل: مشهد الصلب وما قبله وما بعده
تروي الأناجيل الأربعة، ببعض التفاوت في التفاصيل، وقائع الأيام الأخيرة للمسيح: العشاء الأخير مع تلامذته، وخيانة يهوذا له بتسليمه للجنود مقابل ثلاثين من الفضة، ثمّ شعور يهوذا بالندم بعد صدور الحكم على المسيح بالموت. وهذا الشعور قاده إلى الانتحار شنقاً قبل موت معلِّمه. وتروي الأناجيل كيف أُهينَ المسيح وتعرّض للتعذيب قبل الصلب وعلى الصليب، وكيف أسلمَ الروح وهو مصلوب.
ثم تروي الأناجيل تفاصيل ما جرى بعد الصلب: حضور النسوة إلى المكان، لفّ جسد المسيح بالكفن ودفنه في قبر سُدَّ مدخله بحجر. وفي اليوم الثالث، فوجئت مريم المجدلية وبعض الرسل بأنّ القبر فارغ، فظنوا أنّ أحداً سرق الجثمان. لكنّ المسيح ظهر لهم وكشف عن الجروح التي أصابته خلال عملية الصلب، فصدقوا أنه قام من القبر. إلّا أنّ واحداً منهم، هو توما، لم يصدّق ذلك إلّا حين وضع إصبعه في الجرح ليلمسه لَمس اليد.
التناصّ بين قصيدة السيّاب والعهد الجديد
يمكن تقسيم حياة السياب الأدبية إلى أربع مراحل: الرومانسية 1943- 1948، الواقعية 1949- 1955، التموزية أو الواقعية الجديدة 1956- 1960، وخلالها كتب قصيدة «المسيح بعد الصلب»، والذاتية 1961-1964. وتطوّرَ قلق السيّاب الوجودي، المطبوع بهوس البحث عن أسرار الموت والانبعاث، فكتبَ قصائد «مسيحية» عدة، بدءاً من العام 1953.
ولذلك، لم تكن استعانة السيّاب بالأناجيل جديدة عندما كتب قصيدته «المسيح بعد الصلب» في العام 1957. ولم تكن المرة الأولى التي يتلبّس فيها شخصية المسيح نفسه. لكنه في هذه القصيدة تجاوزَ الاستعانة بالرمز ليجعل الرواية الإنجيلية محور القصيدة كلها، بدءاً من عنوانها.
ويستوحي السيّاب في هذه القصيدة ثلاثاً من حالات المسيح في أيامه الأخيرة على الأرض، وهي الصلب والفداء والقيامة التي لا يمكن بلوغها إلّا بالموت. وهو فيها تماهى مع المسيح لينقل صورة المعاناة التي يتكبّدها الشاعر في نضاله لبعث أمّته. ولذلك، أضفى السياب على صورة المسيح بعضاً من ملامح تجربته الذاتية، وتوحّدت الشخصيتان في القصيدة.
و«تجربة القصيدة في مضمونها العارم تُصوّر تضحية الشاعر في سبيل أمّته، واستشهاده في سبيل بعثها، مستغلاً في ذلك فكرة صلب المسيح وفدائه للعالم، أو حياة العالم من خلال موته.
وفكرة البعث من خلال الموت افتتنَ بها السيّاب، وأصبحت تمثّل عنصراً هاماً من عناصر الرؤية الشعرية». ويرى الدكتور إحسان عباس أن ّهذه القصيدة «شديدة الإضطراب، تتعاقب فيها صوَر مستمرة من قصة المسيح على غير انتظام، والشاعر يتّخذ المسيح رمزاً للتعبير عن حاله النفسية، ولذلك فهو المصلوب الذي استطاع أن يقوم من بين الموتى وينعش الحياة في جيكور».
لكنّ الرؤية التي تحكم التعبير عن تجربة المسيح في هذه القصيدة ليست إنجيلية تماماً، لأنّ فيها العديد من العناصر والوقائع المخالفة للرواية الإنجيلية، بل هي تناقضها. لذلك، «لا تبدو محاسبة الباحث الشاعر بناءً على معايير مسيحية ملائمة، كما يظهر ذلك في تعليقه على بعض أبيات من القصيدة».
ويقول إيليا حاوي، في هذا المجال، إنّ السيّاب يورد في القصيدة مشاهد «تجسّد الإله في الطبيعة وإقامة الشاعر في الشمس، والأرض والماء، وهذه ليست من طبائع المسيح». ولذلك، هو «تلقّفَ الرموز المسيحية من الخارج» وفاتَته روحانيتها.
المسيح يُنزَل عن الصليب... ولكن قبل أن يموت
مع الكلمات الأولى من القصيدة، يظهر التأثير الأول للرواية الإنجيلية على السيّاب. فالقصيدة تنطلق من مشهد ما بعد الصلب، إذ تمَّ إنزال المسيح عن الصليب. وإذ جاء في الرواية الإنجيلية أنّ المسيح مات على الصليب قبل إنزاله، فهو في قصيدة السيّاب لم يكن قد مات بعد، وكان قادراً على الإدراك والحسّ.
وواضح أنّ الشاعر أراد إضفاء هذه الميزة على المسيح ليتمكن من إقحام مشروعه الوجداني، أي الشعور بمأساة المدينة التي هي جيكور في المبدأ، لكنها تختصر الأمة جمعاء رمزياً:
«بعدما أنزلوني، سمعتُ الرياح في نواح طويل تسفّ النخيل والخطى وهي تنأى.
إذاً فالجراح والصليب الذي سمّروني عليه طوال الأصيل لم تُمتني، وأنصتُّ: كان العويل يعبر السهل بيني وبين المدينة مثل حبل يشدّ السفينة وهي تهوي إلى القاع. كأنّ النواح مثل خيط من النور بين الصباح والدُجى، في سماء الشتاء الحزينة. ثُمّ تغفو على ما تحسُّ المدينة».
في هذا المقطع من قصيدة السيّاب تناصّ إنجيلي. ففي الرواية الإنجيلية، عندما أطلق المسيح صرخته الأخيرة وأسلم الروح، «أظلمت الشمس... وزلزلت الأرض وتشققت الصخور وتفتّحت القبور».
ويقول السيّاب، بصوت المسيح، إنّ الرياح كانت تنوح، في استدعاء لمشهد النسوة، وفي مقدمهنّ المريمات، اللواتي حضرن إلى مكان الصلب وكان نواحهنّ يمتزج بصراخ المصلوبين الآخرين، ومنهم لصّان على يمين المسيح ويساره ماتا بعده، وبعويل الريح وهدير الزلزال وتشقق الصخور. (متى 27):
«55 وَكَانَتْ هُنَاكَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُنَّ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ الْجَلِيلِ يَخْدِمْنَهُ،
56 وَبَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّة، وَمَرْيَمُ أمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي، وَأمُّ ابْنَيْ زَبْدِي».
ويختم السياب قصيدته كما افتتحها بمشهد الصلب:
«بعد أن سمّروني وألقيت عينيّ نحو المدينة كدت لا أعرف السهل والسور والمقبرة كان شيء مدى ما ترى العين كالغابة المزهرة كان في كلّ مرمى صليب وأم حزينة».
لكن السياب «يُعَرْقِن» المشهد. فالنخيل ليس مذكوراً في رواية الصلب الواردة في الكتاب المقدس، وإن يكن مذكوراً في روايات أخرى، ومنها يوم دخول المسيح إلى أورشليم حيث استقبلته الجموع «بسعف النخيل» (يوحنا - 12: 13). لكنّ النخيل في قصيدة السيّاب يبدو على الأرجح عراقياً بامتياز. وهنا يبدأ الشاعر ربط الصورة الإنجيلية بأرض معاناته في جيكور.
ويضيف: «كان العويل يعبر السهل بيني وبين المدينة». فالمسافة الصوتية الرابطة بين موقع الصلب وجيكور، ليس فيها سوى عويل. وربما كان السهل، بالنسبة إلى السيّاب، الماركسيّ الفِكر، يعني له معاناة المزارعين الكادحين، المتألِّمين تحت نير الطبقة البرجوازية أو الحكّام.
وفجأة، ينقلب المشهد من مسيحي - إنجيلي إلى أسطوري - أدونيّ: «مثل حبل يشدّ السفينة، وهي تهوي إلى القاع». ويبدو أنّ السيّاب هنا لم يستطع مقاومة جنوحه إلى الأسطورة التموزية، فمزجَ بين الموت والانبعاث المسيحيَّين والموت والانبعاث التموزيَّين.
وفي الأسطورة، أنّ أهالي بيبلوس وقبرص كانوا يحملون تمثال أدونيس - تموز خلال احتفالاتهم الطقسية، محاطاً ببواكير الفواكه، ويلقون به في الماء. فتموز هو «إبن المياه العميقة» في الأسطورة. فغرق الإله هو ضرب من ضروب الولادة لأنه يستحيل عودةً إلى ماء الرحم.
ولذلك، يستدرك السياب مؤمناً بوجود ضوء في نهاية الظلام: «كأنّ النواح مثل خيط من النور بين الصباح والدُجى، في سماء الشتاء الحزينة». وهذه الأسطورة كان استوحى منها إليوت شخصية الغريق فليباس، البحّار الفينيقي الغريق.
بين حبّة القمح والعشاء الأخير
في التسلسل الزمني للحوادث الأخيرة في حياة المسيح، قبل الصلب، هو أقامَ لعازر صديقه من الموت، ثم دخل أورشليم واستقبلته الجموع بالشعانين. وهناك أطلق المسيح إحدى أبرز الرموز المؤشرة إلى الموت، بوَصفه باباً للقيامة. فقال في إنجيل يوحنا 12:
«24 الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لَكُمْ: إنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الحِنْطَةِ فِي الأرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ».
وحبّة الحنطة تحوّلت في العشاء الأخير إلى عجين وخبز أوصى المسيح تلاميذه بأن يتناولوه إلى الأبد ليتذكروا موته وقيامته. وفي التقليد المسيحي، بين الشعانين والعشاء السرّي تفصل خمسة أيام. وفي هذا العشاء أيضاً، رفعَ المسيح كأسه وأوصى تلاميذه بأن يشربوا من هذه الخمرة لتكون «دم العهد الجديد».
(مرقس 22:14-26): «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع خبزاً وبارك وكسر وأعطاهم، وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي. ثم أخذ الكأس وشكر وأعطاهم فشربوا منها كلهم. وقال لهم: هذا هو دمي الذي للعهد الجديد يُسفك من أجل كثيرين. الحق أقول لكم اني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديداً في ملكوت الله».
في المقطع الثاني من القصيدة:
«قلبي الأرض إذ تنبض الأرض قمحاً وزهراً وماء نميرا قلبي الماء قلبي هو السنبل موته البعث يحيا بمَن يأكل في العجين الذي يستدير (...)
كنتُ بدءاً وفي البدء كان الفقير متُّ كي يؤكل الخبز باسمي لكني يزرعوني مع الموسم كم حياة سأحيا ففي كل حفرة صرت مستقبلاً صرت بذرة ذرّت جيلاً من الناس في كل قلبٍ دمي قطرة منه أو بعض قطرة».
في هذا المقطع تناصّ بين القصيدة والأناجيل في مَثل حبة الحنطة التي لا تموت إلّا لتأتي بثمر كثير. فهو يسأل: «كم حياة سأحيا؟ ففي كل حفرة صرت مستقبلاً صرت بذرة»، ويستوحي العشاء السري. وهناك أيضاً استعادة لِما ورد في إنجيل يوحنا عن المسيح الكلمة، فيقول: «كنتُ بدءاً وفي البدء كان الفقير». وفي إنجيل يوحنا 2: 1»في البَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، والكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ». هو يريد أن يجزم بأنّ الفقراء الذين يتعذبون سيكونون نواة القيامة.
إشكالية يهوذا وحضوره بعد الصلب
أوردَ السيّاب في قصيدته أنّ يهوذا اصفرَّ وجهه عندما رأى المسيح وقد أنزِل عن الصليب. وهنا مخالفة للمعلومة الإنجيلية عن يهوذا. فالأناجيل تتفق على أنّ يهوذا شنق نفسه ندماً على خيانته المسيح وتسليمه إلى بيلاطس الذي حَكَم عليه بالصلب. ويهوذا هو أحد تلامذة المسيح الإثني عشر.
وفي الأناجيل أنه قبض ثلاثين من الفضة مقابل «بَيعه» معلّمه. ولكنه، عندما أيقن أنّ الحكم قد صدر بصلب يسوع، أصيب بندم شديد دفعه إلى أن ينتحر شنقاً. وفي الموروث المسيحي أنّ يهوذا استطاع بدهائه أن يخفي - لبعض الوقت - طبيعته الحقيقية عن بقية التلاميذ، وأن يقضي على أيّ استياء يمكن أن يحدث بينهم، إلّا أنه شعر هنا بأنه لا يمكن أن يضمن استمرار مصدر دخله. أمّا كلمات سيِّده التي تضمَّنت حديثه عن يوم تكفينه فقد كشفت لمسلِّمه أنّ يسوع قد عرف جيداً نيّاته ضده (متى 26: 12، مرقس 14: 8، يوحنا 12: 7).
لكنّ السيّاب استخدم رمز يهوذا بعد الصلب، على الأرجح لعدم إدراكه بكامل الرواية الإنجيلية، وتحديداً لعدم معرفته بالتوقيت الذي شنق فيه يهوذا نفسه وفقاً للعهد الجديد. هل تمّ ذلك قبل الصلب أم بعده؟
أجرى السياب مواجهة بين المسيح بعد قيامته ويهوذا الذي قاد الأعداء إلى المكان الذي كان فيه المسيح مجتمعاً مع الشعب وأرشَدهم إلى شخصه بتقبيله وحده من دون الآخرين.
«وبينما هو يتكلمُ إذا جمعٌ والذي يُدعى يهوذا أحدُ الإثني عشرَ يتقدمهم فدنا من يسوع ليُقبّلَه. فقالَ له يسوع: يا يهوذا أَبقُبلةٍ تُسلِّمُ إبنَ الإنسان». (لوقا 22: 47 و 48). وفي هذه المواجهة، في قصيدة السيّاب، يقول المسيح عن خائنه:
«هكذا عُدتُ، فاصفرَّ لَمّا رآني يهوذا فقد كنتُ سِرّهْ كان ظلاً، قد اسودَّ، منّي، وتمثالَ فكرةْ جُمّدِتْ فيهِ واستُلّتْ الروحُ منها»
(خافَ أنْ تفضحَ الموتَ في ماء عينيه... عيناهُ صخرهَ راحَ فيها يُواري عن الناسِ قبرَهْ)
ويقول يهوذا لمعلمه:
-«أنتَ! أم ذاك ظلي قد ابيَضَّ وارفضَّ نورا؟ أنتَ من عالمِ الموتِ تسعى! هو الموتُ مرّةْ. هكذا قال آباؤنا، هكذا علّمونا فهل كان زورا»؟
ويقول المسيح قاصداً يهوذا، في القصيدة: «كان ظلاًّ، قد اسودَّ، مني، وتمثالَ فكرَهْ». إذاً، فيهوذا هو الطبعة السوداء للمسيح. وفي لغة التصوير الفوتوغرافي هو الـNegative، هو الظلّ الأسود والنقيض المضاد للبياض، وفكرة ميتة لا حياةَ فيها.
ويردّ يهوذا، إذ فوجيء بشخوص المسيح أمامه: «أنتَ! أم ذاك ظلي قد ابيضَّ وارفضَّ نورا»؟ فيهوذا لا يعترف بالمسيح. يصرخ مستنكراً ومُستكثراً على من يرى أن يكون هو المسيح. والمسيح مات، والموتى لا يعودون من سفرتهم الأبدية. يهوذا هو ظل المسيح الأسود. والمسيح هو ظل يهوذا الأبيض. «إبيضَّ وارفضَّ نورا». (8) والأهمّ هو قوله: «آباؤنا هكذا علّمونا فهل كان زورا». هنا يبلغ التشكيك ذروته.
في المقارنة بين السيّاب والأناجيل، خرج الشاعر تماماً من الواقعة المرويّة في الكتاب المقدس عن يهوذا، لكنه احتفظ بالرمز، أي الخيانة. لقد استوعب الشاعر هذا الرمز وهضمه وتوسّع في تأويله.
مشهد الطعن:
ويعود السيّاب إلى مشاهد عدة من يوم الصلب، ويقول:«فاجأ الجند حتى جراحي ودقات قلبي»، وهنا استدعاء لمشهد الطعن بعد الانتهاء من عملية الصلب. «فأتى العسكر وكسروا ساقي الأول والآخر المصلوب معه». «وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه، لأنهم رأوه قد مات». (يوحنا 19: 32- 33)
وفي الموروث المسيحي، أنّ المسيح مات سريعاً قبل اللصّين، ربما لأنّ جسمه كان نحيفاً، ولأنّ شخصه كان رقيقاً، فلم يتحمّل التعذيب الشديد، أو لعله سمح لنفسه بالموت قبلهما ليدرك الكل أنه مات بإرادته وفي الوقت الذي اختاره. «لكنّ واحداً من العسكر طعن جنبه بحربة، وللوقت خرج دم وماء». (يوحنا 19: 34)
المسيح في القبر ورمزية الفداء
يصِل السيّاب إلى مشهد المسيح في القبر بكامل عناصره: القبر، الصخر، صدري، صلبوني، «رفاق يهوذا من سيصدّق ما زعموا»، المسيح عريان، الظلام، الأقدام، الظن، البرعم بوصفه جرثومة النماء، الأكفان البيض، زهر الدم، الظل، الدجى والنهار...
يقول السيّاب في قصيدته:
«قدم تعدو قدم قدمُ القبر يكاد بوَقع خطاها ينهدمُ أترى جاءوا مَن غيرُهم قدم قدم قدمُ ألقيت الصخرَ على صدري أو ما صلبوني أمس فها أنا في قبري فليأتوا إنّي في قبري من يدري أنّي من يدري ورفاق يهوذا من سيصدق ما زعموا قدم قدمُ ها أنا الآن عريان في قبري المظلم كنت بالأمس ألتفّ كالظن كالبرعم تحت أكفاني الثلج يخضلّ زهر الدم كنت كالظل بين الدجى والنهار».
لكن مسيح السيّاب لا يبدو مستعجلاً القيامة، قبل أن يذكِّر الجميع بأنه هو الذي أقام الأموات في ما مضى. وأمّا صورة البرعم الذي يتفتح في الدفء الربيعي، و«زهر الدم» الذي يطلع من سباته في «أكفان الثلج»، فتبدو أقرب إلى الأسطورة التموزية أيضاً، حيث أدونيس ينبعث مع أزهار الربيع، بعد أن يصرعه الخنزير البري.
وفي القسم الآخر من القصيدة، يستوحي السيّاب المشاهد التي قام فيها المسيح ببعث الموتى من القبور، إذ يتذكّر «كيف في القبر استطاع أن يحيا، يوم منح ذاته للآخرين ويوم مات ليعيشوا، وكيف استحال إلى قوة خالدة غير قابلة للفناء، لأنها قوة إلهية، يوم تفجّرت ذاته كنوزاً يمتاح منها الناس» (9):
«كنتُ كالظلّ بين الدُجى والنهار ثم فجّرت نفسي كنوزاً، فغريتها كالثّمار حين فصّلت جيبي قماطاً، وكمي دثار».
يستدعي السياب هنا ما جاء في الكتاب المقدس، العهد الجديد: «ليتمّ الكتاب القائل اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي اقترعوا» (يوحنا 19: 24).
ويقول الدكتور إحسان عباس: «إمّا أنّ ذلك الشاعر لم يفهم فكرة «الفداء» في المسيحية، وإمّا أنّه فهمها وهو لا يعبأ بالموقف الديني الذي نشأ عليه منها، وإمّا أنّه ـ في سياق الشعر ـ يعد «الفداء» أسطورة من الأساطير، فهو لا يراها حقيقة تاريخية، وفي هذا الموقف الأخير يضيع الحدّ بين الظاهر والحقيقة، أمام عينَي قرّائه، لأنّ الحقيقة حينئذ ذاتيّة تتصِل بضميره الفردي».
وفي كلامه على «رفاق يهوذا من سيصدق ما زعموا»، ثمة تناصّ مع الرواية الإنجيلية، حيث رفض توما أن يصدِّق بأنّ المسيح نفسه هو الذي ظهر له بعد قيامته، فلم يؤمن إلّا بعدما وضع يده في جرح الخاصرة. (يوحنا 20).
السيّاب والتوقيع المسيحي للقصيدة
في المقطع الأخير من القصيدة، يتجاوز السيّاب معيار الرمز الإنجيلي لغايات فنية ليذهب نحو الأسئلة الأكثر عمقاً: هل لامَس الشاعر حدود اقتناعه بقدرة المسيح على القيام بفعِل الفداء. وهذا جوهر الإيمان لدى المسيحيين؟
تفاوتت قراءات النقّاد والباحثين حول هذه المسألة. فالنص الأدبي غالباً ما يترك الأسئلة عالقة. ولكن، يجدر التوقف عند نقطتين في المقطع الأخير:
أ- «حين دفأتُ يوماً بلحمي عظام الصغار حين عريتُ جرحي وضَمدتُ جرحاً سواه حطّم السور الذي بيني وبين الإله».
في السطرين الأولين يعبّر السيّاب عن مفهوم الفداء كما في أي مكان آخر في هذه القصيدة أو سواها، لكنّ السطر الثالث «حطم السور الذي بيني وبين الإله» يثير أسئلة عن الترابط بين الفداء وبين المسيح الذي حطّم السور بينه وبين الله. وجوهر الإيمان المسيحي يقوم على أنّ «الآب والإبن والروح القدس إله واحد في ثلاثة أقانيم». «قُدِّس الربّ هذا مخاض المدينة».
هكذا، بتوقيع ذي طابع مسيحي واضح، يختم السيّاب قصيدته. فعبارة «قُدِّس الرب» جزء من المعجم المسيحي لا الإسلامي.
لقد اتخذ تأثّر السيّاب بالإنجيل شكلاً هرمياً متدرِّجاً من القمة إلى القاعدة. في القمة، اختار السيّاب أن يكون الحدث الإنجيلي الأكثر درامية وفاعلية، أي الصلب والقيامة، محور قصيدته. كما تلبَّس الشاعر شخصية المسيح نفسه ونَطق بصوته.
ثم تدرّج في استدعاء المحاور الإنجيلية الموازية: القرار بالتضحية والفداء من أجل الآخرين (الشاعر رسم لنفسه صورة البطل المنقذ لمجتمعه وشعبه، كما المسيح)، على رغم الخيانة (خصومه السياسيون والأنظمة وأعداء الأمة). هذا القرار يستلزم تقبّل العذاب والموت (فقدان الشاعر وظيفته مراراً لمعاقبته على مواقفه السياسية)، ويقود إلى القيامة (خلاص الأمة).
وأمّا المحور الإيماني المسيحي فيظهر في قصيدة السياب مسألة خاضعة لأحد تفسيرين: التفسير الديني، أي مقاربة الشاعر الإيجابية للمفاهيم الإيمانية المسيحية الأساسية، ولا سيما الفداء.
والتفسير الفني، أي أنّ مقاربة الشاعر للمفاهيم الإيمانية في شكل إيجابي لم يخرج عن الإطار الفني. فالإيمان بالفداء هنا لم يكن سوى جزء من الشحنة الوجدانية التي استخدمها السيّاب لبلوغ غايته. (*) مقتطفات من دراسة مقارنة للتأثير الإنجيلي في قصيدة السيّاب «المسيح بعد الصلب».
الأكثر قراءة
الأكثر قراءة
06:46
نتنياهو قد يُشعل الحرب نكايةً بترامب

1
06:43
التصعيد الإسرائيلي لتأجيل زيارة أورتاغوس أم استباقاً لطروحاتها

2
May 19
مانشيت "الجمهورية": الكتائب تخسر في زحلة والمناصفة تفوز في بيروت... ترقبٌ لبنانيّ لترجمة نتائج اجتماعات الرياض

3
06:44
واشنطن ورؤيتها للبنان: احتواء تداعياتها بالحوار!

4
May 23
بينما انهار الاتحاد السوفياتي.. هل ترك الـK.G.B. هدية في البرازيل لجواسيس اليوم؟

5
May 23
12 جريحاً اثر هجوم بسكين في محطة للقطارات في هامبورغ

6
May 22
سوريا إلى الحرب الأهلية؟ وماذا عن لبنان؟

7
May 23
في مكالمة مع ترامب.. بوتين ينتصر دبلوماسياً مع تحفّظ اقتصادي

8
