لوحة آكلي البطاطا... في وجوههم قبحٌ جميل
لوحة آكلي البطاطا... في وجوههم قبحٌ جميل
اخبار مباشرة
تيري رومانوس
جريدة الجمهورية
Sunday, 22-Jun-2014 23:58
يُجمع النقّاد على أنّ لوحة «آكلي البطاطا «Les mangeurs de pommes de terre هي من أروع اللوحات التي رسمها الفنّان الهولندي فنسنت فان غوغ، فهي تُجسِّد عَن حَقّ حياة الفلّاحين الشاقَّة، ويفوح منها شذا الأرض المشوب بالتعب والبؤس والشقاء.
إلى أيّ مدى تعكس هذه اللوحة نفسية فان غوغ ومشاعره حتى جاءت بهذا القدر من الدقّة والصدق والأمانة؟ رسمَها الفنان الهولندي فينسنت فان غوغ في نيسان عام 1885م في قرية نوين الهولندية.

وتجدر الإشارة إلى أنّ أسلوبه في رسم «آكلي البطاطا» مغايرٌ لما اعتدناه في اللوحات الأخرى. فهو يعتمد «الريشة المقطَّعة» عادةً، أمّا هنا فطبّق الطريقة الكلاسيكية، حيث انسابت الخطوط وتدفّقت بلا توقّف.

وبعد مرور سنتين، كتبَ رسالة لشقيقته ويليمينا في باريس يخبرها عن لوحة les mangeurs de pommes de terre التي كان يعتبرها من أفضل ما رسم على الإطلاق: «أظنّ أنّ لوحة الفلّاحين وهُم يأكلون البطاطا التي رَسَمتُها في نوين هي من أفضل أعمالي».


لم يَذُق فان غوغ في حياته طعم السعادة ولا عرف للهناء معنى. كانت أيّامه كناية عن سلسلة مترابطة من الألم والخيبة والمرض وشتَّى أنواع الشقاء. من أجل هذه الأسباب كان يشعر بأنّ من واجبه التعاطف مع البؤساء والفلاحين الذين قهرتهم الحياة.

على كلّ حال، لم تكن ظروفه أفضل من ظروفهم، إذ كان يقيم في منزل متداعٍ قديم، ويرقد على سرير مخلّع، ويرى يوميّاً ألواناً من العذاب ليكسبَ قوتاً لا يقيه شرَّ عوزٍ ولا يسدّ جوعاً عتيقاً نكّد أيامه وأرَّق لياليه.

أجواء اللوحة

تُجسِّد اللوحة عائلة من الفلّاحين يتحلَّقون حول مائدةٍ أكلَ عليها الدهر وشرب، ويتقاسمون طبقاً مليئاً بثمار البطاطا المسلوقة التي يجنونها من حقولٍ يروونها بعرق الجبين والدم الذي يسيل من أياديهم التي شقَّقتها الأتربة اليابسة.

لقد دأبوا على تناولها منذ نعومة أظفارهم حتى باتت وجوههم وأصابعهم تشبه تلك الثمار الموحلة التي يقتلعونها من رحم الأرض الضنين. من أجل هذا السبب تطغى تدرّجات اللون البنّي، لون الأرض والطين والتربة على المشهد العام.

لا شكّ في أنّ أجواء اللوحة كئيبة، وبالكاد ينيرها مصباح نورُه أكثر شحوباً واكفهراراً من الظلام. ولقد اعتمد فان غوغ أسلوباً ذكيّاً في توزيع الأنوار في زوايا الغرفة وأرجائها وعلى الوجوه المتعبة والقانعة بما قسمَه الله لها.

من ملامحهم الكالحة ينبع جمال يعجز المرء عن تفسيره. وقد حرص الفنّان على أن يرسم ملامحَهم بهذا القدر من الدقّة، ليعكس واقعَهم المرير. في المقابل، أضفى مسحة أمل ورجاء من خلال الفتاة الصغيرة، والتي لا تبدو عليها امارات الشقاء، بل يشعر المرء بأنّها سعيدة ومدلَّلة، وفي انتظارها مستقبل باهر سينتشل الأسرة من الهوّة التي تقبع فيها.

ومن جهة أخرى، تلْفتُ النظرَ تعاسةُ ربَّة المنزل التي تَسكُب الشاي، لربّما لأنّ الهَمّ يلفّها بظلاله الكثيفة، لدرجةٍ أنّها لا تتفاعل سلباً ولا إيجاباً إزاء ثمرة البطاطا التي يقدّمها لها رأس العائلة، فكلّ تركيزها موجّه إلى مَلء الفناجين البيضاء بالشاي الداكن مثل أيامها القاتمة، فيما تظهر أطراف المائدة المثقلة بالغموم وشَظَف حياةٍ خنقَها ضيقُ ذات اليد.

وهناك أيضاً أصابع أفراد الأسرة المتشابهة، والممتدّة نحو طبق البطاطا الكبير، ولكأنّها عظام مجرّدة لفرطِ هزالها وضراوة الأشغال التي تقوم بها للصمود ومواصلة حياة البؤس والتقتير والتعتير. فهل سيأتي اليوم الذي تُزاح فيه ستارة الحزن والتعاسة وينقشع أفق هؤلاء الفلّاحين؟

كان فان غوغ يأمل في أن ينصفه النقّاد الذين عاصروه، بَيدَ أنّهم لم يرحموه، ولا اللوحة أخذَت «حقّها» في أيامه، ولم يعرف العالم «قيمة» فان غوغ الحقيقية إلّا بعد مماته.

theme::common.loader_icon