18 إمرأة من جحيم الحياة إلى حياة الجحيم
18 إمرأة من جحيم الحياة إلى حياة الجحيم
اليسار حبيب
جريدة الجمهورية
Friday, 06-Dec-2013 00:31
تاريخ مفصليّ حفر في ذاكرتي وترك بصمته في حياتي، هو اليوم الذي وقفنا فيه أمام سجن نساء بعبدا المركزي، الذي يقال عنه إنّه من أرقى السجون اللبنانية، منتظرين وصول زياد لندخل واياه الى السجن، ونلتقي النساء الظالمات اللواتي هرّبن المخدرات وتعاطَيْنها وزهقن أرواح عدد من الأشخاص المظلومين، الى جرائم أخرى تفاوتت حدّتها من سجينة الى أخرى.
وقفنا في الباحة الخارجية للسجن مذهولات لصغر مساحتها، وفي عقولنا أفكار تتخبّط وتتجاذب ومعتقدات بقيت خاطئة الى حين وطأت أقدامنا عتبة الباب الرئيسي.

ولكن قبل وصول زياد ذلك الشاب الجسيم الذي رفضنا الدخول من دونه لاعتقادنا بأننا نستطيع الاحتماء خلفه من عنف السجينات وإجرامهنّ في حال إنقضاضهنّ علينا، وصلت سيارتان للشرطة وثالثة تنقل السجينات فاعتقدنا بأنّه سيتمّ نقلَ بعضهنّ أمام أعيننا وأننا سنتمكّن من مشاركتهنّ لحظاتهنّ المأسوية.

ولكن، فيما كانت عيوننا شاخصة الى تلك الشاحنة التي تشبه السجن إرتفع صوت أحد الشرطيين من الجهة اليمنى صارخاً في وجه إمرأة شقراء جميلة ومكبّلة - لا يبدو على مظهرها مشهد الاجرام- قائلاً لها: "طلعي ولي... اسكتي وطلعي"، فلم تمانع أو تقاوم، كذلك لم تنبث ببنت شفّة، فصعدت الى السيارة راضخةً صاغرة. وقد شكّل صراخ هذا الشرطي وشتائمه دليلاً كافياً على السلطة التي تمنحه اياها "الدولة-الامّ".

مساواة في السجن؟

بعد لحظات وصل زياد، فشُرّعت أمامنا أبواب السجن الموصدة وإستقبلنا بحفاوة كبيرة وترحيب لم نشهد مثله قبلاً، وعندما علمت إحدى العاملات في السجن أنّ رجلاً سيدخل معنا، أخطرت السجينات المتديّنات لكي يتحجّبن.

بين المدخل الرئيسي والردهة التي تنقلنا الى غرف السجينات خطوات معدودة، خطوات تنقلنا من واقع الحريّة الى واقع العبودية. فما رأته عيوننا لم تتمكّن عقولنا من إستيعابه حتّى الآن، إنه مأساة حقيقية، وظلم لا يستطيع حتّى الظالم والمجرم والقاتل والسارق تحمّله... أكثر من 18 إمرأة سُجنَّ في غرفة واحدة لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار مربعة.

18 إمرأة من مختلف الاعمار والطوائف والجنسيات والجرم إجتمعن في غرفة واحدة ووحدّتهنّ المصيبة. وفي هذه الغرفة تساوت الفيليبينية والأثيوبية باللبنانية والسورية والعراقية، وتتشارك فيها السنيّة والشيعية والمسيحية والدرزية، فيتلاقى الانجيل والقرآن ويسود مبدأ الاخوّة والعيش المشترك.

لا يخضع ترتيب السجينات في الغرف لأي عامل أو شرط، ففي السجن النسوة كلّهن متساويات ولا يقسّمن لا بحسب أعمارهنّ، أو جنسياتهنّ أو طوائفهنّ، ولا حتّى بحسب الجرم المرتكب أو المتّهمات بإرتكابه؛ فتنام القاتلة جنباً الى جنب مع من مارست الدعارة التي بدورها تجاورت مع من تعاطت المخدّرات أو تاجرت بها، وفي الغرفة نفسها تجاور فراش مزوّرة الشيكات مع فراش المتّهمة بنصب أو إحتيال... وفي إختصار تلخّص غرفة واحدة بتركيبتها المتنوّعة تركيبة مجتمع كبير بما يحتويه من جرائم وعنف وإرهاب جسديّ ونفسيّ.

... وظروف غير إنسانية

أمّا عن أوضاع السجينات الإجتماعية فحدّث ولا حرج، إذ يتناوبن على دخول الحمّام الصغير لقضاء حاجاتهنّ أو للإستحمام والحفاظ على نظافتهنّ في غرفة متعفّنة ويتآكلها الصدأ، فيما تعاني أخريات من أمراض مزمنة كالتلاسيميا والسكري، ولا يحصلن على أدويتهنّ، والسجينة الحامل مضطرّة الى تحمّل آلام المخاض والنزف بمفردها وبلا مساعدة طبيّة. اما بالنسبة الى الطعام، فمَن تملك المال في إمكانها شراءَ طعام لذيذ ومياه نظيفة "باهظة الثمن" قياساً على سعرها خارج السجن، ولا تكون مضطرّة لتحمّل طعم ما يقدّمه مطبخ السجن من مأكولات "محمّضة" وشرب المياه الممزوجة بالكلور، على حدّ قول إحدى السجينات.

ومثلما هو الواقع في الخارج، في السجن أيضاً تتحكّم القويّة بالضعيفة، اما السجينة الجديدة التي تدخل فتحتاج الى الحصول على رضى السجينات القديمات الممسكات بزمام "النظام الداخلي" لـ"القاووش" الذي ينصّ أحد بنوده: "تنام السجينةُ الجديدة على الأرض لتترك المجال امام القديمة للحصول على سرير".

قصص تتوق الى الحريّة

السجينات اللواتي إختلفت قصصهنّ تلاقين على "مبدأ واحد" وهو تعرضهنّ للظلم. وما أن شاهدننا حتّى تأهبن تأهب الشرطيّ لأداء وظيفته، وقبعن في مكانهنّ منتظرات أن يحين دورهنّ للإستماع الى قصصهنّ والى تجاربهنّ المعششة في زوايا الغرفة القاتمة.

لدى السجينات رغبة جامحة في أن يستمع أحدٌ إليهنّ، خصوصاً لدى اللواتي تجاوز وجودهنّ في السجن الخمس سنوات، إذ ملّ الاهل من زيارتهنّ. وما أن أتحنا لهنّ المجال للتعبير عما يزعجهنّ ويقلقهنّ ويخيفهنّ حتّى بدأت تكرّ على السنتهن وقائع مسيرة المعاناة الحقيقية التي تشبه "درب الجلجلة" والتي تخللتها بعض المحطّات المضحكة والغريبة.

قُتل عشيقها فسُجنت

فاطمة تلك الفتاة الجميلة (28 عاماً) مضى على دخولها السجن 5 سنوات بتهمة التستّر على جريمة قتل وهي لا تزال حتّى اليوم موقوفة بلا محاكمة، فاطمة ذات العينين الزرقاوين والشعر الطويل الأسود تروي قصّتها دامعة، فهي قد إشتاقت لولديها وتتوق الى لقائهما مجدداً. فاطمة هي واحدة من النساء المظلومات اللواتي لم يحاكَمن بعد، فهي تستّرت على زوجها الذي قتل إبن بلدته، إلّا أنّها سلّمت نفسها للقضاء بعد إكتشاف فعلة زوجها.

وبعد التدقيق في قصّة فاطمة إكتشفنا أنّ زوجها قتل عشيقها وإتّهمها، وهذا ما دفعنا الى التساؤل: هل فاطمة ظالمة أم مظلومة؟ أكانت سُجنت لو لم تحبّ رجلاً غير زوجها؟ ولكنّ كلّ هذه التساؤلات لا تبرّر بقاءها خمسَ سنوات بلا محاكمة.

يعتقد زوجها انّها في الصين

ومن القصص التي صادفناها أيضاً، فتاة قابعة في زاويتها خائفة ومضطربة، وقد علمنا بأنّها مسجونة منذ نحو 40 يوماً بتهمة تعاطي المخدّرات من دون علم زوجها وأهلها، إذ إدّعت أنّها في رحلة الى الصين "فأنا لا أرغب أن يكتشف زوجي الامر لأنه عندما قُبِض عليّ كنت برفقة حبيبي، فإذا إكتشف زوجي الامر فقد يلحق بي الأذى".

نيكول... الاناقة و«الويسكي»

نيكول فتاة لا تشبه أيّ سجينة أخرى، لا من حيث مظهرها الخارجي ولا حتّى من حيث المعاملة التي تحظى بها، فلا يمكنك دخول عتبة السجن من دون ملاحظة تلك الفتاة الجميلة التي خضعت لعمليات "بوتوكس" لتكبير وجنتيها وشفتيها، ناهيك عن تصغير أنفها.

نيكول هذه، إمراة فاتنة وجذّابة تبلغ من العمر38 عاماً لم تخطّ التجاعيد طريقها الى وجنتيها، تهتمّ لجمالها وأناقتها حتّى خلف القضبان الصدئة، فتختار الاحذية التي تتناغم مع ملابسها وتضفي على طلّتها مزيداً من الترتيب والأناقة، ومنها تفوح رائحة العطور الشذيّة، أمّا شعرها فمصفف وفق آخر صيحات الموضة.

لا تأكل مهندسة الديكور التي مضى على سجنها سنة ونصف السنة بتهمة الاتجار بالمخدّرات من مأكولات السجن "بل أطلب السلطات والمأكولات الخفيفة للحفاظ على رشاقتي، وأنا لا أهتمّ لسعرها لأنني أملك المال".

نيكول تعيش حياة رغيدة داخل السجن، لا ينقصها الّا "الويسكي" التي تمنّت لو "نهرّبها" لها، لكنّها لا تنفك عن شتم الشرطيين، خصوصاً في مخفر حبيش "فهناك يستفيد الشرطيون من المرأة التي يقبضون عليها ويجبرونها على ممارسة الجنس معهم على السطح".

لم تكفها جريمة واحدة

أمّا زينب البالغة من العمر 20 عاماً والتي مضى على سجنها 5 سنوات فهي تحنّ الى سجن الأحداث "فذلك المكان لم يكن يشبه السجن، بل كان مركز تأهيل وكنّا نعامل بإحترام ونحصل على مياه نظيفة ليس كهذه الممزوجة بالكلور، وفي ذلك المكان لم نكن في حاجة الى المال للعيش بكرامة".
زينب هذه متّهمة بجريمة قتل "ولكنّ زوجي الذي كان يتعاطى المخدرات وقُتل على إثرها صاحب الايجار، وقد أقرّ بفعلته ولذلك إنتهت القضية".

إلّا أنّها لن تخرج من السجن على رغم إقرار زوجها بفعلته. والسبب؟ تجيب: "أنا محكومة بدعوى ثانية، فعندما كنت في سجن الأحداث أغرمت بشرطيّ كان يهرّب لي الطعام والهاتف و..."، غصّت الشابة الصغيرة وإنهمرت الدموع من عينيها قبل أن تتابع: "إغتصبني فإدّعيت عليه، إلّا أنّ القضاء لم يأخذ كلامي على محمل الجدّ، ورفض أن يعاينَني طبيب ليكشف على وضعي، وبما انني لا أملك المال لأدفع تكاليف المحامي يبدو أنني سأبقى قابعة خلف القضبان".

في كلّ زاوية من زوايا السجن تتغلغل قصّة مختلفة بوقائعها وأحداثها وتفاصيلها وشخصياتها وظلمها وعنفها وحقدها عن القصّة الاخرى، وتنتظر الوقت المناسب لتخرج من عشّها القاتم وتبصر النور قبل أن تدفن خلف براثن القضبان الموصدة وفي سجن الحياة غير العادلة

هل يتحرّك القضاء المختص للنظر في صرخات المظلومات المسلوبات من أبسط حقوقهنّ؟
theme::common.loader_icon