عاجل : بلاغات عن أعطال عدة تضرب منصة "X" حول العالم
مسيحيُّو «حوّارة الضنية» في زغرتا... مَن يُعيدهم إليها؟
مسيحيُّو «حوّارة الضنية» في زغرتا... مَن يُعيدهم إليها؟
اخبار مباشرة
باسكال بطرس
جريدة الجمهورية
Saturday, 02-Nov-2013 01:03
سُلِخ 25 مليون م2 من أراضي أهل بلدة حوّارة المسيحية في قضاء الضنية منذ أكثر من 20 عاماً على انتهاء الحرب الأهلية، ما أدّى إلى تهجيرهم قسراً وانتقال جزء منهم إلى منطقة زغرتا، حيث بَنوا منازل في حي سمّوه «الحوّارة»، تأكيداً لتشبّثهم بأرضهم وتمسّكهم بالعودة إليها، «على رغم رفض القوى السياسية الفاعلة إثارة هذا الموضوع خشية خسارة أصوات ناخبي الضنية».
«كلّ ذكريات طفولتي هنا»... يتنهّد سركيس يوسف ابراهيم مستذكراً الأيام السعيدة: «كنت ألعب مع أخي في هذا الحقل هنا، وكان والدي يؤنّبنا في كل مرّة أهمَلْنا رَيّ المزروعات التي كان يعاملها معاملة الأب لأطفاله». ولم يستطع الرجل الخمسيني كَبْت دموع عينيه، وهو يشير إلى مساحة واسعة من أراضيه المُعتَدى عليها.

«الجمهورية» رافقت ابراهيم، الذي يسكن حالياً في زغرتا، إلى مسقط رأسه في الضنية، حيث أطلعنا على الأراضي التي ورثها من والده وقضى قسطاً من حياته في أرجائها. «لا أستطيع أن أصِف ما أشعر به عندما أكون على هذه الأرض. وغالباً ما أتردّد وأتمشّى هنا. أرتاح كثيراً هنا وفي الوقت عينه أشعر بالأسى والغضب الشديد».

تهجير على مراحل

ويروي ابراهيم كيف كانت حوّارة محطة تهجير على مراحل، قبل ثورة الـ1958، عندما نزح أهاليها من جرود الضنية إلى القضاء الأقرب إليهم. وحلّوا ضيوفاً عند أقاربهم في زغرتا والبلدات المجاورة، ليعودوا إلى القرية بعد نحو خمسة أعوام من غُربة قسرية، أسفرت عن بَيع بعضهم أراضيهم بأسعار بخسة، فتشتّتوا بين مَن هاجر إلى بلدان الانتشار، ومَن رغب البقاء في مكان نزوحه.

ويضيف: «إلّا أن التهجير دقّ أبوابنا مرة أخرى خلال أحداث عام 1975. واضطررنا الى النزوح والهجرة جميعاً بعد أن احتلّ جيراننا أراضينا، ونهبوا أرزاقنا، ودمّروا ما استطاعوا تدميره، وباعوا ما باعوه. خسرنا كل شيء. أرضنا وتراثنا وماضينا. وبتنا «على الأرض يا حَكَم». ومن العدم، أسّسنا حارة في قضاء زغرتا تابعة عقارياً لبلدة كفردلاقوس، فيما انضمّ البعض إلى حاراتٍ أخرى».

غربة قاسية

مضى أكثر من نصف قرن، والأهالي يعيشون غربة قاسية بعيداً من جذورهم وأراضيهم التي كانوا يعتاشون منها. إلا أنّ أيّاً من المسؤولين لم يأبه لمصير بلدة حوارة، وبَدا وكأنّ أهلها هجروها برضاهم، أو أنهم غادروها في اتجاه السواحل أسوةً بسائر سكان قرى الضنية الجبلية، الذين يغادرونها شتاءً ليعودوا إليها ربيعاً. لكن الواقع لم يكن كذلك. فأيٌّ من أبناء حوّارة المسجّلين في لوائح النفوس هناك، لا يمتلك متراً مربعاً واحداً من الأرض.

وفي هذا الإطار، يؤكد ابراهيم أن «عدداً من أراضينا قد باعها مَن اعتدى عليها، ومَن اشتراها دفع ثمنها. فقد احتال المعتدون على المشترين وباعوهم ممتلكات يجهلون أصحابها الفعليين. وهنا تكمن المشكلة الكبيرة»، ويشير إلى أنه «لا يوجد سوى مذهب واحد لأهالي البلدة منذ تسجيلها في دوائر النفوس وعلى لوائح الشطب، فكيف أصبح هناك استملاك فيها لأناس من مذهب آخر؟ وأين صكوك البيوعات؟ وعلى أيّ أساس حصلت هذه البيوعات؟».

وإذ يلفت إلى أنه في عمليات البيع للأراضي غير الممسوحة، يجب الرجوع إلى مختار البلدة، يؤكد أن أحداً لم يراجع هذا المختار في ذلك، ويقول إن «هذه المساحات الشاسعة مثبّتة بسندات ملكية رسمية في حوزتنا ومعروفة لدى أبناء البلدة ومحيطها»، ويسأل: «كيف يحقّ لمختار غير منتخب من أبناء البلدة ولا يمثّلهم، إصدار علم وخبر لبَيع الأراضي الخاصة بالبلدة وتمليكها، وذلك في تلاعب فاضح ومخالف للأنظمة والقوانين المرعية الإجراء؟».

جرف المدافن

لم تعد معالم البلدة واضحة، وكأنها أزيلت بكاملها. فالأراضي تتداخل في ما بينها وتتواصل عبر طرق ترابية لا يسلكها سوى المزارعين. معظم بيوتها مهدّم. فقط أبنية الباطون المتينة وغير المكتملة لا تزال صامدة. «لقد حطّمت جرّافاتهم منازلنا وأرزاقنا وبَنوا مكانها بيوتهم. لقد أسقطوا كل المعالم الأثرية والتراثية لبلدتنا الجميلة»، يقول ابراهيم بحزن وأسى عميقين، مضيفاً «حتى أنهم جرفوا مدافن الضيعة كلّها التي كانت تقع خلف الكنيسة».

لكنه يستدرك منتفضاً: «إلا أننا لم ولن نسمح لهم بتدمير كنيستنا الوحيدة في البلدة. حاولوا مراراً هدمها، ولكننا حاربناهم ووقفنا سدّاً منيعاً في وجه مشروعهم». وعند وصولنا إلى مقرّ الكنيسة اليتيمة، لفت ابراهيم إلى «جرس الكنيسة الذي عَمد سكّان البلدة الى تشويه معالمه بهدف تدميره»، مضيفاً: «تمكنّا من ردعهم في اللحظة الأخيرة، وقد أقفلنا مدخلها وحرّمنا على أيٍّ كان الاقتراب منها. ويسترجي حَدا يجرّب، منفِكلّو رقبتو».

ويكشف نعمة نعمة عن «انتهاكات كثيرة طاولت البلدة، منها اقتطاع قسم من النطاق العقاري الخاص بها، وضمّه إلى نطاق كفربنين بغية إحداث بلدية فيها»، مشيراً إلى أنّ «المخالفة الأبرز هي في طريقة اقتطاع تلك الأراضي، فالنطاق العقاري لحوّارة يربو على 25 مليون م2 من الأراضي غير الممسوحة، وتشمل الأراضي الزراعية والأحراش والغابات».

رحيل الأمل

أهالي حوّارة الذين توزّعوا بين بلدات اردة ورشعين وزغرتا والرميلة وغيرها من بلدات قضاء زغرتا، يتطلعون إلى هذا الملف باهتمام، ولكن المحرّك الوحيد والأساسي فيه كان مختار البلدة طوني موسى الذي حمله وجاهر به على المنابر وجال فيه على المسؤولين المعنيين لإعادته إلى الواجهة. «إلا أنه لم يُكتب للمختار الشاب إكمال مشواره وحصد النجاح الذي يطمح اليه بفضل علاقاته المهمة ومساعيه المتقدّمة. فقد توفّي في حادث سير مؤلم جداً قبل نحو شهرين، ووقع النبأ علينا وقوع الصاعقة. الجميع كانوا يحبونه ويقدّرونه، كان رجلاً مميزاً لا شبيه له»، يقول ابراهيم متحسّراً عليه.

بعد رحيل «مختارهم الحبيب»، بات أهالي حوارة يخشون موت قضيتهم معه، فتدفن الى جانبه الى الأبد. إلا أنّ عائلته تصرّ على المقاومة والاستمرار في الطريق الذي مهّده إحياء لذكراه ولجهوده في هذا المجال.

وفي هذا السياق، يؤكد أحد أفراد عائلته التي تعيش حداداً عليه أنّ «المختار كان قد التقى رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، ووزير المهجرين، بالإضافة الى فعاليات الضنية وزعمائها وسلّمهم كتاب نداء للعمل على رفع الظلم والمعاناة عن هذه البلدة المهجرة من خلال عودتنا إليها واستعادة الأملاك والأراضي المصادرة وإخلاء البيوت المحتلة، ودفع التعويضات المستحقة لإتمام العودة بكرامة، وترسيخ دعائم العيش المشترك بين م ختلف شرائح المجتمع الضنّاوي»، ويلفت الى أنّ «هذا النداء وقّعه نحو 600 شخص من أبناء بلدتي، ونحو 70 رئيس بلدية ومختار في قضاء الضنية حيث بلدتي المهجّرة، ومن قضاء زغرتا حيث توجد تجمّعات المهجرين، ونشدّد من خلاله ونؤكد الطابع الإنساني والاجتماعي لهذه القضية المقدسة بعيداً من الاصطفاف والمماحكات السياسية الضيقة أو الطائفية. كذلك، وقّع المستقلون من الطائفتين المسيحية والاسلامية هذا النداء».

محسوبون على فتفت

من جهته، يشرح رئيس «حركة الأرض اللبنانية» طلال دويهي كيف أن الحركة تُولِي هذا الملف أهمية كبيرة، مؤكداً «أننا لن نرتاح قبل عودة كل شِبر من أرض حوّارة إلى أصحابها الحقيقيين»، وداعياً إلى القيادات السياسية المعنية في قضاءي زغرتا الزاوية والضنية الى «معالجة هذه القضية وإنهاء تداعياتها على قاعدة التزام الجميع مسيرة العيش المشترك التي تهددها استباحة أراضي المسيحيين وتغيير التوازن الديموغرافي في المنطقة».

لكن يبدو أن أهالي حوّارة قد فقدوا ثقتهم بالقيادات السياسية، ويلفت ابراهيم في هذا الإطار الى «أنّنا ندرك جميعاً هنا أنّ الذين احتلوا ضيعتنا محسوبون على النائب أحمد فتفت، وهو مضطر الى مجاراتهم لضرورات انتخابية»، وإذ يذكّر بأنّ «جميع سكان حوارة الحاليين من الطائفة السنية، في حين أن جميع الأسماء الموجودة على لوائح الشطب هي من الطائفة المارونية»، ينتقد كلام فتفت «الذي يحاول أن يوهِم الإعلام بأننا جميعاً تركنا البلدة ونزحنا بعيداً عنها لضرورات العمل، فهل يعقل أن تنزح ضيعة بكاملها بصغارها وكبارها وعجزتها وأطفالها، 3 آلاف نسمة، في ليلة ليس فيها ضوء قمر بهذه البساطة؟». ويستطرد: «في الانتخابات النيابية الأخيرة، انتخبنا النائب فتفت. إلّا أن سلوكه لم يريحنا، إذ تبيّن لنا أنه يعمل ضدنا خدمةً لمصالحه الانتخابية الخاصة».

القضاء مرجعنا

وفي المقابل، يؤكد فتفت لـ»الجمهورية» أنّ «هذا الملف يعود الى العام 58 حيث بيعت يومها مساحات هائلة من الأراضي، إلا أننا حَضّينا اصحاب الأراضي في مناسبات عدة على إبراز المستندات والوثائق القانونية والإثباتات الرسمية التي تؤكد حصول اعتداء فعلي على الأراضي، ولا مشكلة بتاتاً، فالقضاء هو المرجع الفاصل في هذا المجال، ونحن مستعدون لقبول أيّ حكم قضائي وندافع عنه ونحميه». ويضيف: «ولكن حتى الآن لم يبرز لنا أحد منهم أيّ وثيقة رسمية تؤكد مطالبهم»، كاشفاً عن أنّ «معظم البيوعات حصلت عند عدد من الكتّاب بالعدل في زغرتا».

وإذ يلفت إلى أن «هناك 15 ألف صوت مسيحي في الضنية، الى جانب مسيحيي الحوارة»، يؤكد «أننا لا نؤيد مسألة نقل النفوس، فهي خطرة جداً وتناقض منطق العيش المشترك، ما يولّد مشكلات كثيرة بين الناس»، مشدداً على أنّ «هناك توجهاً عاماً في لبنان لمَنع نقل النفوس من منطقة الى أخرى والفرز السكاني». ويسأل: «هل المقصود تقسيم البلد وإرساء مشروع الفيديرالية؟» معتبراً أن «هذا المنطق غير صحيح على الاطلاق، فأنا أدرك تماماً أن مسيحيي الضنية فخورون بانتمائهم للضنية».

وإذ يجدد التأكيد أن «التغيير الديمغرافي في حوّارة قد حصل قبل بداية مسيرتي السياسية في التسعينات»، يقول: «إن مسيحيي حوّارة يخصونني سياسياً أكثر من سكانها المسلمين الحاليين، وأفتخر بأنّ مسيحيي حوّارة دعموني في الانتخابات النيابية بنسبة 80 في المئة»، متهماً «أقليّة منهم» بـ»إثارة الفتنة».

وفي المحصّلة، صرخةٌ من قلب الضنيّة يوجّهها لبنانيون الى دولتهم يطالبونها بالتفاتةٍ إلى جُرح لن يندمل على الأرجح. فمن أبسط حقوقهم أن يتدخّل القضاء لحلّ قضيّتهم ويحكم بعدل وشفافية لإشهار الحق والحقيقة.

ولكن يبقى السؤال: هل سينجح أهل حوّارة في استعادة أراضيهم فيعود كل مهجّر منهم إلى بيته مرفوع الرأس ومن دون منّة هذا السياسي أو ذاك الزعيم؟ أم أنّ هذا الملف سينضمّ إلى سلسلة ملفات أراضي المسيحيين العالقة من دون حلول، على غرار كل القضايا التي تدخل فيها السياسة وتفسدها، وفق القاعدة القائلة «ما دخلت السياسة شيئاً إلّا وأفسدته»؟.
theme::common.loader_icon